عن الكاتب
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
دَرَج مَثلٌ في إسطنبول لسنواتٍ عدَّة بعد أنْ دخلَها محمد الثاني سنة 857هـ الموافق 1453م: «هل شاركت في نهبِ إسطنبول؟»، وذلك كناية عمَّا حدث لأهلها من حالِ السَّلبِ والنَّهبِ والقتلِ الذي مارسه جيش العثمانيين، وفق طبيعتهم التي استمرت طوال فترة سيطرتهم على كثير من المناطق والأقاليم. وكأنّي بالمؤلف التُّركي آيتاج أوزكان لو استدركَ ما استدبَر لمزَّق تلك الصفحة التي ساقَ بها هذا المَثَل في كتابه السلطان محمد الفاتح (ترجمة: أحمد كمال «القاهرة: دار النيل، 2015»، 97)، لأنَّها تَعكِسُ وجه الجرائم العُثمانيَّة المُتكرِّرَة طوال التاريخ حينما يتمكَّنون من دخول مدينة من المدن.
يبدو أنَّ الطبيعة تغلب التَّطبُّع مهما مرَّ بِنا الزَّمن، ففيما تُمارسه الحكومة التُّركية الحالية برئاسة طيب رجب إردوغان عسكرياً وسياسياً ضد العالم العربي، إنما هو انعكاس للطبيعة العثمانية القديمة، سواءً بدافع الأحلام الإمبراطورية، أو الاستنزاف الاقتصادي والسياسي لبعض الدول التي مدَّت بها الجمهورية التركية نفوذها، مُستغلة الآيديولوجيَّة الحزبية للمجموعات المُتطرِّفة، وافتراض حالة من الصراع العربي العربي باستثارة العواطف الدينية التي تدعو إلى العُنف وقهر الآخر.
يختبئ خلف كل ما تستثيره الحكومة التركية من موضوعات وإجراءات ذات بُعد عاطفي ديني؛ إحداث كارثة أو محاولة دعم الصورة النمطية التي يحرصون على رسمها بين المتعاطفين معهم، من خلال خلق مشاعِر مُختلطة بين الواقع المأساوي الذي تحاول تركيا جرّ الشرق الأوسط إليه ونقيضه، مما يدعم موقفها ويصورها برداء الإسلام والحرص على مصالحه.
وحالة المشاعر المُختلطة ماثلة وواقعة، يتلاعب بها الحزب الحاكم التركي حالياً على شعبه والحكومات الضعيفة التي تستظل بظله. وبذلك أصبحت العاطفة معلَّقة بين تصديق هذا الثوب الإسلامي المُطرَّز بالتقوى والكرامات، والواقع المادي البعيد كل البُعد عنه في دعم المثليَّة والعلاقة مع إسرائيل، وارتكاب الجرائم المُتلاحقة في حق الأبرياء العرب، سواء باستغلالهم كمرتزقة أو بتنفيذ عمليات عسكرية على أرضهم والاستيلاء على خيرات بلادهم، ناهيك عما يحدث من استنزاف اقتصادي يُمارس على مستوى دولة كاملة بنظام الإتاوة.
ومما يبدو أنَّ الأمر بات واضحاً وماثلاً وواقعاً لدى الكثيرين، وأصبحت تفاصيل اللعبة مكشوفة. غير أن الحكومة التركية لم تزل تُمارس اللعب على الوتر الديني وعاطفته. ففيما تم تسويقه إعلامياً خلال الأيام الماضية من تصويت المجلس الدستوري التركي بالإجماع لإبطال قرار الحكومة عام 1353هـ الموافق 1934م بتحويل «آيا صوفيا» إلى متحف بعد أن كان مسجداً؛ صورة واضحة من صور التلاعب بالمشاعر، خاصة مع تداول رفع الأذان في أيا صوفيا وإعادة فتحها أمام المُصلّين. فيما أن القصد الأساس من ذلك هو كسب الجانب المُتطرِّف من المسلمين بهذه الصورة التي تثير مشاعرهم، وتغطي على الواقع المادي البعيد جداً عن الإسلام.
من الممكن أن تتلاعب السياسة في أي مجال؛ عدا الجانب العلمي والتاريخي، فالتاريخ وإن استخدم لقضايا سياسية؛ تبقى حقائقه ماثلة وواضحة بدعم المصادر والمراجع التي تخدمه من خلال المتخصصين والمهتمين، وإن تمت محاولة إخفائه. لذلك فإن أخطر ما يمارسه السياسيون محاولة التغيير والتزييف؛ لأنها حينما تثبت وتُكتشف تُصبح سُبَّة تُسقط صاحبها.
وما تتم ممارسته في استخدام التاريخ المُركَّب في تُركيا؛ إنما هو تصوير حي لحالة الاستنزاف الحكومي له لخدمة المصالح السياسية.
وفيما يخص «آيا صوفيا»؛ فإن الأمر يجب النظر إليه من جانب تاريخي بناءً على سؤالين مهمين؛ الإجابة عنهما تكشف لنا ما تقوم به الحكومة التركية:
الأول: هل قام المسلمون قبل العثمانيين منذ عهد الرسول وخلفائه من الراشدين، ومن بعدهم الأموية والعباسية بانتهاك حُرمة دور عبادة أهل الكتاب في البلاد المفتوحة؟
الثاني: ما هو واقع حادثة رفع الأذان في عهد محمد الثاني بعد دخول القسطنطينية، وتحويل كنسية آيا صوفيا إلى مسجد؟
في عصر النبوة ذكر محمد بن سعد (توفي: 230هـ- 845م) في الطبقات الكبير: «وكتب رسول الله لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته». (تحقيق: علي محمد «القاهرة: مكتبة الخانجي»، 2001). وفيما كتب منهج وأسلوب يجب على المسلمين كافة الاقتداء به في التعايش مع الآخر، واحترام طقوسه الدينية ودور عبادته ومشاعره.
ووفق هذا الهدي السمح سار الخلفاء الراشدون من بعده، فقد ضمن الخليفة عمر بن الخطاب نحوه في العهدة العمرية التي كتبها لأهل القدس، وفيها: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، ألا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم. ولا يُكرَهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين». وبمثله كتب عمر لأهل اللُد، وبمثله أيضاً كتب عياض بن غنم لأهل الرقة، ولأسقف الرها.
وحين فتح خالد بن الوليد دمشق كتب لأهلها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذا دخلها أماناً على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم، ولا يسكن شيء من دورهم، لهم بذلك عهد الله وذمة رسول الله والخلفاء والمؤمنين». (راجع: أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، تحقيق: عبد الأمير مهنا (بيروت: شركة الأعلمي للمطبوعات، 2010)؛ سعيد بن بطريق «أفتيشيوس»، التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق (بيروت: مطبعة الآباء اليسوعيين، 1905).
مقابل هذا التسامح والحالة الحضارية الراقية التي تعامل بها رسول الله وخلفاؤه من بعده، وبذلك اتصف القادة المسلمون الحقيقيون.
أما محمد الثاني حينما دخل القسطنطينية؛ أثار في أهلها الخوف والرعب، وسمح لجيشه أن يستبيح المدينة أياماً بعدها حتى راحت حالة النهب والخوف مثلاً كما أشرت في البداية.
آيا صوفيا كنيسة مسيحية أُنشئت بين عامي 532 – 537م في عهد الإمبراطور الروماني جستنيان الأول، وظلَّت على ذلك إلى أن دخل العثمانيون القسطنطينية، إذ خالف محمد الثاني التعاليم الإسلامية في الأمر بتحويل الكنيسة إلى مسجدٍ، مستغلاً انتصاره وقهره لأهلها.
كُتب التاريخ التي تحدثت عن هذه الحادثة؛ أجمعت على أنه أمر منذ دخوله الأول ووصوله إلى الكنسية بتحويلها إلى مسجد وإقامة أول صلاة جمعة فيها، وأمر برفع الأذان فيها. وكان هذا أمراً قهرياً يُخالف صراحة ما أُمرنا به من احترام أهل الكتاب كما ورد في رسالة محمد ومن بعده من الخلفاء المسلمين، خاصة في احترام أماكن عبادتهم وكنائسهم.
وبطبيعة الحال أن مؤرخين كُثُراً أتراكاً وممن يُحسبون على العرب؛ ذكروا ذلك من باب الافتخار، رغم أن ذلك مخجل في حقيقة الأمر، لأنه لا يعكس الأخلاق الإسلامية. ومنهم التركي ألبير أورتايلي الذي يقول: «وهكذا أصبحت هاجيا صوفيا، التي كانت أعظم مكان عبادة في العالم المسيحي، مكاناً عظيماً للعبادة الإسلامية. لم يكن هناك أي مبنى في أوروبا الغربية أكثر سحراً من هاجيا صوفيا. قبل تشييد الكنائس العظيمة خلال عصر النهضة، كانت هاجيا صوفيا قبلة أنظار المسيحيين في كل مكان. هذا يفسر اعتبار تحوُّل هاجيا صوفيا إلى مسجد أمراً بالغ الأهمية.
وبنفس المعنى، كان تصرف الجمهورية التركية بعد 1930 ذا مغزى فائق الأهمية من الناحية السياسية والثقافية حين حوِّلت دار العبادة هذا إلى متحف، بعد أن كان سبباً وشاهداً على صراع بين البشر لقرونٍ طويلة». (إعادة استكشاف العثمانيين، ترجمة: بسام شيحا «بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2012»، 77).
ما قاله أورتايلي يعطينا بُعداً دقيقاً للحساسية العالية التي يشعر بها الأتراك في تاريخهم جراء هذا الفعل المُستغرب في انتهاك حُرمة الكنيسة، لذلك لم تجد الحكومة مخرجاً في ثلاثينات القرن العشرين إلا في تحويله إلى متحف ليس دار عبادة للمسيحين ولا المسلمين.
بينما محمد حرب في كتابه «العثمانيون في التاريخ والحضارة»؛ صاغ الأمر وفق العاطفة الإسلامية المُتطرِّفة بتصوير الأمر كلحظة فخر واعتزاز بقوله: «كان من حق الفاتح قانوناً – ما دامت المدينة قد أُخذت عنوة – أن يكون هو نيابة عن الجيش الفاتح مالكاً لكل ما في المدينة، وكان من حقه أيضاً تحويل نصف الكنائس والبيع وعلى مدى زمني طويل إلى جوامع ومساجد وترك النصف الآخر لشعب المدينة على ما هو عليه، وفي وقفيات السلطان محمد الفاتح بنود كثيرة على بقاء أديرة جوكاليجا وآيا وليبس وكيرا ماتوا والكس في يد البيزنطيين». (ط2 «دمشق: دار القلم، 1999»، 75).
بينما أن التعامل وفق مبدأ العبودية القهري لم يكن مألوفاً لدى المسلمين قبله، إذ لا يمكن قبول كون الناس وممتلكاتهم ودور عبادتهم ملكاً للسلطان، كما يحاول أن يُشرعن ذلك محمد حرب في كتابه ويصوغه على أساس أنه أمر بديهي مألوف.
اليوم بعد هذا التاريخ المُركَّب، وحالة الاستحياء التركي في القرن العشرين من أمر آيا صوفيا بحكم محاولة تحسين الصورة أمام العالم الأوروبي؛ يعود إردوغان للتأكيد على أن الطبع متأصلٌ في النفس، ويحاول أن يكسب عاطفة المسلمين في العالم برفع الأذان في آيا صوفيا وتحويلها إلى مسجد، بينما أن ذلك لا يُمثل التعاليم الإسلامية في عدم قهر أهل الكتاب والتشفي بهم بهذه الصورة المُتطرِّفة.
ولكن يبقى الهدف أن البوصلة التركية حالياً باتجاه العالم العربي والإسلامي، وبالتالي فإن الحسبة الأوروبية باتت في حكم الميؤوس منه، وبناءً عليه تمت المُقامرة باستثارة المشاعر معهم من المسلمين والعرب، ومشاعر المسيحيين السلبية في رؤية كنيستهم وقد حوِّلت قسراً إلى مسجد.
كما أنه لا يحق للأتراك في أي حالٍ من الأحوال التصويت أو اتخاذ قرار كهذا، في ظل الحقوق المرعيَّة دولياً للشعوب ومشاعرهم في العالم. وهذا لم يكن مبعثه عالمياً فقط، بل إنه مبدأ محمد بن عبد الله وصحابته والمنهج الإسلامي المُعتدل على مرِّ التاريخ.
أما ما يتعلق بالوثيقة التي أُعلن عنها في وقف الفاتح لآيا صوفيا؛ فحتماً أنها من اللُّعب التي يوَظَّف فيها التاريخ ويتم تزييفه، فليس صعباً على دولة أن تُزيِّف وثيقة ما لم تثبت صحتها ونسبتها وحجتها، مقابل أن الوثيقة المُعلن عنها لا تتواءم مع الواقع التاريخي. فالفاتح في اللحظة الأولى التي دخل فيها القسطنطينية أعلن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فمتى قام بالشراء أو إقامة الوقف، إذ إن الأمر محسوم وفي حكم المنتهي بالنسبة له.
وفي الوقت الذي نقول نحن فيه إن هذا الأمر لا يُمثلنا كمسلمين في العالم كافة؛ نُحارب ما تقوم به الحكومة الإسبانية الحالية من ترويج وثائقي لملكيَّة مسجد قُرطبة، إذ لا يمكن أن يتخيل المسلمون أنه يحق لأحدٍ بيع بيت من بيوت الله على الأرض، في المقابل آيا صوفيا يراها المسيحيون كما نرى مسجد قُرطبة.
* أكاديمي وإعلامي سعودي
“نقلا عن الشرق الاوسط”