عن الكاتب
سادت خلال الثلاثين عاماً الماضية نظرة تعتقد بأن توفّر السيولة داخل القطاع العقاري سيسهم في تصحيح مساره بطريقة تلقائيّة وعفويّة، ولكن الواقع أثبت عكس ذلك، فلم تنتج السيولة الضخمة داخل القطاع إلا سيطرة الجشع لدى ثلة من تجار التراب ما أوجد حالة فساد استشرت داخل القطاع العقاري بصورة فجّة.
والتخطيط الحضري لأي مدينة يعني أن سعر قطعة الأرض فيها ستتضاعف عشرة أضعاف إن تُركت فريسة للتجار العقاريين، وأينما وجد التخطيط الحضري غير المنضبط حتماً سيوجد الفساد بأبشع أنماطه، وهو ما يتطلب تدخلاً حكومياً لإعادة إدارة المدن في المملكة وفرض العقوبات الرادعة، وإحالة الكثير من التجار إلى المحاكم لمحاسبتهم بدلاً من الإبقاء على مقولة السوق عرض وطلب، فهذه المقولة ليست صالحة في السلع الضروريّة كالمساكن أو الخدمات الطبيّة أو البنى التحتية التي تحتاج إلى حزم وإلزام وسن القوانين والأنظمة.
معدل التحضر العالمي أسرع بكثير من معدل النمو السكاني على كوكب الأرض، ففي الوقت الذي بلغ فيه عدد سكان الأرض 9.5 مليار نسمة فإن هناك ما يصل إلى 7 مليارات منهم يعيشون في المدن بحثاً عن حياة أفضل، ورغبة فطريّة في التحضّر بوصفه سمة للإنسان المعاصر، ما يستوجب وجود أجهزة رقابيّة متعددة الأطراف لمكافحة الفساد بدعم من الحكومات مع تنامي ظاهرة انتهاك القوانين المدنية واستغلال حاجات المواطنين الأساسية.
العلاقة فيما بين تحضّر المدن وتنامي ثروات أعداد قليلة من السكّان يفتح باباً للتحقيق والتدقيق في كيفيّة استحواذ تلك الثلة على الأموال الضخمة بطرق غير مشروعة، ومن السذاجة أن نتعامل مع ذلك الثراء الفاحش على أنه جزء من العملية الاقتصاديّة الطبيعيّة، إنما هي في معظمها تتأسس على عمليات نصب واحتيال وتخطيط مسبق لنهب ثروات الضعفاء، كحال تلك الأراضي التي يقفز المتر فيها إلى أسعار خياليّة بمجرّد إيصال الماء والكهرباء إليها، على الرغم من أن التاجر لم يُنفق من جيبه تكلفة تلك الخدمات، وهذا ما يكشف عن حالة الجشع غير المبرر واستغلال حالات التحضّر المدني في ظل غياب الأنظمة الصرامة التي تضبط تلك السلوكيّات.
النمو الحضري للمدن تجعل دائماً أشخاص محددين أكثر ثراء من غيرهم؛ لأن الثروة التي ينتجها التحضّر لا يجري تقاسمها بطريقة عادلة بين السكّان، ما يجعل الدول أقل رفاهية رغم تطورها وتحضّرها، ما يستلزم سنّ القوانين الصارمة التي تكفل استفادة الجميع من الثروة الحضريّة الناتجة عن التخطيط السليم للمدن، واستمرار غياب التنظيم والسياسات الضابطة لعمليّات النمو الحضري للمدن لن يُنتج إلا ازدياد معدل هجرة السكّان من المدن إلى الأرياف هرباً من تزايد التكاليف المعيشيّة وهو ما يتنافى مع المشاريع الحضريّة الرامية إلى احتضان المواطنين وليس تهجيرهم، إذ لا فائدة من مدن متطورة بلا سكّان قادرين على العيش فيها.
أ. ياسر صالح البهيجان
* ماجستير في النقد والنظرية
“نجران نبوز”