عن الكاتب

إهداء: لمن سألت دماؤهم وضحوا بأرواحهم من أجل الوطن.
إهداء: لمن حاربوا وقاوموا الطائفية والعنصرية من أجل الوطن.
إهداء: لمن صمدوا وما زالوا ثابتين من أجل الوطن.
.
11:30 مساءً/ يناير 2017
نجران/ الحدود السعودية اليمنية
اختلطت أصوات الرشاشات والمدفعية مع أصوات طائرات الأباتشي منذ المغرب في واحدة من أقوى وأعنف المعارك والاشتباكات على الحدود. السكان القريبون من الحدود والذين لم تخرجهم الحرب من منازلهم اعتادوا هذه الأصوات وألفوها ولو أنهم لم يحبوها، ولا أحد على كل حال يحب الحروب ولا يعجب بها.

.

خالد وحسين في أعلى نقطة من جبل “أم مخروق” ودرجة الحرارة الآن 5 درجات مئوية وتتجه للانخفاض مع مضي ساعات الليل في ليلة شتاء باردة لا تشبه سخونة المواجهات المستمرة. انفصلا عن زملائهما في محاولة للالتفاف خلف أفراد الهجوم ليقعا في كمين لم يتوقعاه، واستطاعا بعد مواجهات قاسية أن يحتميان في غار صغير أقصى وضع ممكن لهما فيه هو وضع الجلوس، وفي مدخل الغار صخرة تغطي جزء كبير وكأنها باب ساتر لما فيه، اسندا ظهريهما لصخور الغار وأنفاسهما الحارة تخرج من جوفيهما لتصطدم ببرودة الجو القارسة وتتحول لبخار لا يرى في ظلام هذا الليل الدامس والموحش جدًا، أصوات ارتطام الرصاص بالصخور المجاورة لمكانهما مع أصوات المواجهات الغير بعيدة كثيرًا تهدأ قليلًا لتعود لمستوى قوتها مرة أخرى.

.

بعد ساعات من المواجهات يشعر الجسم بالتعب والجوع، وهما يدركان أنه لم يبق معهما من الذخيرة إلا ما في مخزن رشاش كل واحد، ويدركان أن الأمل بالله سبحانه ثم بصد المهاجمين قبل شروق الشمس والالتحاق بزملائهم، وأدركا أن مكانهما ساتر وحامي لهما ما دام الليل يسترهما، لذلك حرصا على عدم تبديد ما تبقى معهما من رصاص.
– الله أعلم حن بنسلم الليلة يا حسين؟
– (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، إن شاء الله إن حن بنسلم وأنا أخيك.
– أي والله أخي. أهلنا جيران من قبل ما نولد، وأنا وأخواني كلنا ولدنا في نجران، وكبرت أنا وياك سوا، ودرسنا في نفس المدارس، وتعينا في حرس الحدود سوا، ونبقى بإذن الله أخوان.
– أنت تذكر المشكلة اللي صارت لنا في الابتدائي، عز الله إن وقفتك ما تنسى يا خالد.
تنتقل بهما الذاكرة إلى ساحة مدرستهم الابتدائية، الطلاب يركضون في كل الاتجاهات وأصوات الضحكات والصراخ والصخب الطفولي تملأ المكان، حسين وخالد طالبان نحيلان في الصف الخامس الابتدائي، يسد طريقهما طالب في الصف السادس، ويوجه كلامه لخالد ونظراته لحسين:
– أنت ليش دائمًا تمشي مع ذا الشيعي؟
كانت كلمة صادمة للطفلين، وكان رد خالد سريع وعفوي:
– هذا خويي، وأنت وش دخلك؟
– بس هذا شيعي رافضي، ما تشوفه كيف يصلي؟
حسين يشعر براحتيه الصغيرتين تنقبضان وأصابعه تشتد ليرد بشكل غاضب:
– أنا إسماعيلي.
ضحك الولد ورد باستهزاء:
– الإسماعيلي يعني شيعي ما فيه بينهم فرق.
– أبوي يقول هذولا جيراننا، وهم أخواننا، وكلنا مسلمين، رد خالد بصوت أعلى.
– وش عرف أبوك أنت، الشيخ في حلقة تحفيظ القرآن يقول “هذولا شيعة، وهم أشد كفرًا من اليهود والنصارى، وهم ما يحبونتا ولا نحبهم، علشان كذا لا نأكل معهم ولا نجلس ولا نلعب معهم بعد”.
– حنا بنلعب مع بعض ونأكل مع بعض وهذا صديقي ولا راح أخليه ولي عندك سوه.
حسين يردد وهو يحس أن جسمه مشدود جدًأ، وخالد كان يحاول يمسكه:
– لا ما حن بكفار.. لا ما حن بكفار.. لا..
لاحظ المعلم مشرف الفسحة تجمع الطلاب، وقام بتفريقهم بدون أن يكلف نفسه عناء السؤال عن سبب تجمعهم.
سارا خالد وحسين واليد باليد بكل حب وفخر، كما تتشابك يديهما الآن وهما في غارهما المظلم.

.

اقترب وقت الفجر، ولا زالت الاشتبكات مستمرة، وكان طلوع الشمس يعني انكشافهما وبالتالي تلاشي فرص نجاتهما.
– أنا برمي عليهم واشتت انتباههم وأنت أرجع لأخويانا، وارجعوا لي ساعدوني. ما فيه حل ثاني يا حسين.
حسين كان يعرف أن خالد يريد أن يضحي بنفسه في سبيل نجاته.
– خذ العلم يا خالد ولا تكثر الكلام، يا نسلم سوا يا نستشهد سوا.

.

لحظات صمت قطعها اختلاط صوت آذان المهاجمين الأقرب مع صوت آذان أخوياهم الأبعد في نقطة الرقابة.
– خالد خلنا نصلي الفجر توكل على الله.
تيمما بما توفر لهما في غارهما من تراب آخر شبر من أرض الوطن، صليا جالسين في مكانهما الضيق، حسين يرسل يديه في صلاته، وخالد يضم يديه لصدره في صلاته، صلاة في هدوء وخشوع، لا يشبه صخب قنوات الإعلام في تلك اللحظة والتي تتسابق لإعلان خبر عاجل:
“….. أنباء عن عمل إرهابي استهدف المصلين في أحد المساجد، وأنباء أولية عن أن الإرهابي شاب قد فجر نفسه بحزام ناسف بين المصلين بعد دخولهم في صلاة الفجر، وأنباء غير دقيقة عن وفيات وإصابات، وسنوافيكم بالتفاصيل أولًا بأول”.

.

بدأت خيوط أشعة الشمس بالظهور لتطرد الظلام الساتر، واشتد الرصاص ليطرد هدوء وخشوع تلك اللحظة، عرفا أن بقاهما هنا يعني الاستسلام والأسر في النهاية. حسين وخالد وجهًا لوجه، لحظة كان الكلام فيها للعيون، لحظة مر فيها شريط ذكرياتهما سريعًا، لحظة محبة وأخوة ووفاء، لحظة وداع.

.

همسا معًا:

.
نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمد رسول الله.
سحبا سلاحيهما، وخرجا من ملاذهما الأخير الضيق إلى ملاذ الله الدائم الواسع، وصاحا بعالي الصوت المختلط بصوت الرصاص:
لعيونك يا وطن.. لعيونك يا وطن..

.

محمد بن حسن وعلان

“نجران نيوز”

 

شارك هذا المقال

آخر الأخبار

الفيفا يعتمد قائمة الحكام السعوديين المعتمدين لعام 2025

الأربعاء, 18 ديسمبر, 2024

بعد موافقة مجلس الوزراء.. وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تستعرض أبرز ملامح سلم رواتب الوظائف الهندسية

الثلاثاء, 17 ديسمبر, 2024

المملكة تطلق للعالم “إعلان الرياض” لذكاء اصطناعي شمولي ومبتكر ومؤثر لخير البشرية

الإثنين, 16 ديسمبر, 2024

استمراراً لتعزيز التجربة الرقمية التأمينات الاجتماعية تطلق خدمة مؤشر الالتزام للمنشآت

الإثنين, 16 ديسمبر, 2024

وداعاً زحمة الرياض

الإثنين, 16 ديسمبر, 2024

ألبوم الصور

كتاب الرأي

مقالات أخرى للكاتب

5 Comments

  1. hamad ali khudaot مارس 22, 2017 في 9:57 م - الرد

    مقال رائع وفي الصميم لك مني كل التحيه والتقدير اخي الكريم

  2. محمد جماهر مارس 22, 2017 في 10:34 م - الرد

    الله الله عليك وماشاءالله عليك مقال رائع مقال عن الف كتاب وخطبه يضعك امام الحقيقة ويظهر لك معنى التأخي والاخوة والتعايش والتضحية من اجل الوطن كلنا في خندق واحد ولعنة الله على كل خبيث متطرف عنصري مذهبي

    صحت يمينك

  3. ناديا ابوساق مارس 23, 2017 في 6:37 م - الرد

    المجد للشهداء ملح الارض .’

  4. يوسف ال الحارث مارس 23, 2017 في 10:45 م - الرد

    لله درك مقال عن الف مقال

  5. محمد آل قراد مارس 27, 2017 في 12:03 م - الرد

    تطرقة في بداية المقال للصمود لأهالي منطقة نجران رغم دوي أصوات المدافع والطائرات وسقوط المقذوفات خصوصاً على منازل السكان المحاذين للحدودهناك صمود وهناك وفيات وهناك أطفال قتلوا في زهرة الشباب وهناك دافع للصمود حب الوطن والأخلاص للقياده وكم نتمنى تحرك بعض الجهات المسئوله لإيجاد السكن الملائم في الاحياء الآمنة بعد الله رحل من رحل وبقي من بقي في منزله ينتظر قدره ومن رحل رجع لأسباب منها ارتفاع إيجار المنازل وطمع وجشع أصحاب العقار أرهقهم مادياً . صورة صورة رائعة لكلاً من خالد وزميله حسين رغم أختلافهم مذهبياً ومدى حبهم كلاً للآخر منذو الصغر وكبر ذالك الحب المقدس بينهم وظل يرافقهم حتى في أصعب الأوقات وأحنكها.
    أتمنى أن يغرس مثل هذا الحب والتآخي في نفوس الأجيال وينمو ويكبر أبتداء من فصول المدرسه البدائيه حتى آخر المراحل التعليميه وأن يكون هناك دور للمساجد والخطب تحث على ذالك لن أطيل في التعليق رغم إشياقي لذالك ولكن أتمنى لك التوفيق صاحب قلم حر ومميز ودام عزك ياوطن،،

اضف تعليقاً