مسعدة اليامي – المشهد – نجران

عاكفة جادة نجران سنوات من البحث والتنقيب والدراسة والمتابعة وحضور الدورات وصعود الجبال ونزول الأودية وساعات من التأمل للكتابات والرسومات التي على الصخور وبعد المتابعة المعجونة بالشغف أسفر عن ذلك مجموعة من الكتب عن التراث المكاني لمنطقة نجران وكيف يتعرف السائح على الكثير من المعالم التاريخية في حال كانت نجران وخاصة عاكفة قبلته المعرفة العلمية.. ضيف اللقاء الباحث محمد مانع آل حارث.

البداية البحث والتنقيب من الاعمال الشاقة حدثنا عن ذلك؟

لا شك أن البحث والتنقيب عمل شاق ومتعب حقاً ولكن الهواية والرغبة في أي عمل مهما كان شاق ومتعب تجعله سهلاً ومريحاً ولكون عاكفة وبئر عسكر منطقة واسعة غرب نجران تمتد من سد نجران إلى الحدود الإدارية لمنطقة عسير وتشمل أهم مواقع المعادن والجرانيت في منطقة نجران وفيها تضاريس هامة من جبال شاهقة وأودية عميقة وغابات ومنتزهات طبيعية ونقوش أثرية وهي منطقة بكر لم يكتب عنها أحد من قبل ولأهميتها سياحياً وأثرياً فقد تكبدت المتاعب في سبيل توثيق مرجع علمي شامل عن تلك المنطقة هو كتاب (عاكفة جادة نجران) وهو المرجع الوحيد للبحث والدراسة عن تلك القرى والنواحي من ناحية التاريخ والناس والتضاريس والآثار والمعالم الأثرية والسياحية وكذلك عملت في كتاب (صفة نجران) وهو عمل لا شك شاق ومضني إلا إن ثمرة العمل الشاق دائماً تكون مرضية.

هل كان البحث عن تضاريس الأرض ومعالمها شغف منذ نعومة أظفارك أم أن الدراسة والوظيفة هي الموجهة لذلك؟

السير في الأرض والنظر في معالمها سياحة فكرية الموجه والدافع له هو الشغف والرغبة في إبراز الأهمية السياحية والأثرية للمنطقة.

ما المتعة التي تجدها في البحث والتنقيب وما هي أهم كنوزك التي لازلت تحافظ عليها إلى اليوم من الطفولة؟

البحث والتنقيب في واجهات الصخور وقراءة سجل الأولين هواية ممتعة أتتبع فيها آثار الأولين وأخبارهم المسجلة على واجهات الصخور ومداخل الكهوف وحرصاً على حفظ الآثار من الاندثار وتشجيعاً للسياحة المحلية سيما والبحث يشمل معالم الأرض وتضاريسها وتعريف ذلك اصطلاحاً ولغة ومعرفة المواضع المناسبة للسياحة، وهذه أساسيات لابد منها لدراسة جدوى السياحة اقتصادياً في منطقة حيوية كعاكفة، علماً بأن السياحة رافد قوي للاقتصاد الوطني، والبحث في أدبيات المكان وتاريخه وتضاريسه أمر يستهويني وأحافظ عليه منذ الطفولة.

حدثنا عن أهم المشاريع البحثية التي شاركت خلالها وما الخبرات التي استفدت؟

المشاريع التي تخدم التراث الوطني تبدأ من الحفاظ عليه واستشعارأهميته ولكون عاكفة تزخر بمواد التراث ومقومات السياحة وتمتازبكثافة الغطاء النباتي والمتنزهات الطبيعية والمعالم الأثرية فقد رأيتمن الواجب تدوين ذلك وحفظه والتعريف به في كتاب ليكون مرجععلمي ومشروع يخدم هذا الجانب فقمت بتأليف كتاب (عاكفة جادةنجران) وكذلك فعلت في كتاب نجران منذ بدء الزمان في مجال تسلسلالاحداث التاريخية في منطقة نجران بشكل عام وأيضا في كتاب (صفةنجران) في مجال السرد الوصفي تاريخيا وجغرافيا، وأيضاً شاركت فيعدد من الدورات والتدريبات في مجال الإرشاد السياحي فادتني كثيراًفي التعرف على معالم المنطقة وتضاريسها وأوديتها وجبالها وعاداتالناس وتقاليدهم.

كيف حالك مع خير جليس وما أهم الكتب التي قرأت وساعدتك في عملك؟

لا يزال الكتاب هو الجليس الونيس والصديق الوفي للجميع ولا غنى عنه ولو أن وسائل التواصل الحديثة أخذت من نصيبه في الوقت والاهتمام نصيب لا يستهان به، فلم يعد شغفي بالكتاب اليوم كما كان سابقاً وأراه تراجع إلى النصف أو قريبا منه، وأما الكتب التي ساعدتني في انجاز عملي فهي كثيرة ومن أهمها كتب التراث الإسلامي ككتب الأخبار والآثار وكتب التاريخ والسير والمغازي وكتب اللغة العربية وآدابها وقواميسها كلسان العرب لابن منظور ومعجم ما استعجم للبكري وتاج العروس للزبيدي،ودواوين الشعراء  من العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام وغيرها وكذلك كتب البلدان كصفة جزيرة العرب للهمداني وهو كتاب تاريخي جغرافي مهم يعتبر مرجع لمن أتى بعده من البلدانيين    وكالحموي  في معجم البلدان.

متى بدأت الكتابة وهل نشرت مقالات بحثية في الصحف؟

كنت وأنا طالب في المرحلة المتوسطة ثم الثانوية ضمن مجموعة تقوم بعمل النشاط اللاصفي المتضمن مسابقات وأنشطة علمية مثل إنتاج الوسائل أو اللوحات الجدارية وكنت أقوم بتنفيذها نيابة عن أفراد المجموعة على ورق مقوى أو على فلين وكانت تتضمن نصوص مختارة من كتب الثقافة الإسلامية والتاريخ والأدب، وكنت شغوفاً بها حتى لربما انشغلت بها عن النشاط الصفي وأصبحت هواية مفضلة وكان حلمي نشر مقال أو مشاركة في أحد الصحف المحلية فحاولت محاولة أواثنتين ونشرت في جريدة الوطن السعودية، وكنت آنذاك أقرأ رواية مترجمة لا أدري الآن لمن هي وكنت اتعجب من الشخصيات والأحداث فيها وتمنيت لو كنت روائي أستطيع أن أعمل مثلها وبالفعل حاولت اكتب رواية وانا لا أعلم عن قواعدها شيئا ولا الفرق بينها وبين القصة فكانت خداجاً فكرياً لا هدف لها ولا حتى عنوان فتركتها  وبعد حين فكرت أكتب عن عاكفة وهي القرية التي ولدت فيها وانتقشت ذكراها الأولى في الذاكرة.

حدثنا عن الكتب التي قمت بتأليفها وكيف كانت بدايتك المشوار مع كل كتاب؟

بدأت البحث والتأليف في كتابة (عاكفة جادة نجران) من بداية ١٤٣٠هـوأنهيته في عام  ١٤٣٤هـ  وهو أول تجربة لي في التأليف، احتوى على عدةمواضيع منها وصف جغرافي وطبوغرافي لتضاريس عاكفة وما حولهاوآثار الأولين فيها وأخبارهم وأحوال الناس اليوم وعاداتهم وتقاليدهموما آلت إليه عاكفة في هذا العهد المبارك، أرسلته بعد ذلك للناديالأدبي بنجران وبقي عندهم قرابة السنة على أمل أن يطبع ولكن اعتذرالنادي بحجة أن الكتاب تاريخي جغرافي وليس أدبي وهو عذر لم أفهمهحتى الآن، أرسلته بعد ذلك لهيئة الآثار والمتاحف بالرياض ومكث لديهمأكثر من ست سنوات ثم أرسلت نسخة منه لمجموعة تكوين المتحدةللطباعة والنشر وتمت الموافقة على طبعه ونشره من قبلهم في الطبعةالأولى عام ١٤٤٤هـ.

ومن عام ١٤٣٤ بدأت العمل على كتابي (صفة نجران) وكتاب (نجرانمنذ بدء الزمان) وقد تم طباعة نجران منذ بدء الزمان عن دار كنوزالمعرفة / عمان/ الأردن الطبعة الأولى ١٤٤٥هـ – ٢٠٢٤م يستعرضالتسلسل التاريخي والمراحل الاستيطانية والحضارية التي مرت بهانجران منذ أمد بعيد حتى الآن. وكتاب (صفة نجران) تحت الطبع وهويتناول بالتفصيل صفة أرض نجران ومحافظاتها وتضاريسها من جبالوأودية ورمال، ويبين أهمية موقعها وسبب التسمية الذي استغرقالعمل عليه بمجهود ذاتي منذ عام ١٤٣٤ وإلى الآن.

عاكفة جادة نجران لكل شيء أهداف وأسباب فما هي أهدافك وأسبابك من وراء هذا الكتاب؟

عاكفة منطقة سياحية أثرية ومحطة مهمة لقوافل التجار سابقاً شواهد البناء والإحياء الزراعي والكم الهائل من النقوش الصخرية الأثرية القديمة تدل على ذلك ولكونها بكر لم يكتب عنها أحد ولم يعرف ذلك عنها إلا سكانها فإن ذلك الإهمال مدعاة لتشويه هويتها التاريخية وطمس معالمها الأثرية وبالتالي تقل الاستفادة منها سياحياً كون السياحة المحلية رافد وطني مهم فمن هذا الجانب استشعرت المسؤولية تجاه ذلك وتقدمت بطلب استدعاء لإمارة عاكفة ورفع طلبي لفرع هيئة السياحة والآثار بنجران بهذا الخصوص ولبوا الاستدعاء مشكورين ووقفوا معي بمعية مندوب الامارة على النقاط المحددة وتم حفظها كنقاط أثرية فكنت فخوراً وفرحاً بحفظ هذه المواقع وهي عبارة عن نقوش ورسومات أثرية وكان ذلك من أهم دوافعي لتأليف كتاب عاكفة جادة نجران.

ما الأسباب التي استدعتك لتكون الشواهد أبيات من الشعر العربي الفصيح وهل ترى أن في ذلك تقريب للفهم؟

قوامة اللسان ومفردات اللغة في عاكفة تطابق ما ورد في الشعر العربي الفصيح من مفردات ومعان فكانت الشواهد الشعرية تناسب المفردة وتناسب أيضاً المعنى عند سكان المنطقة كما هو موضح في كتاب(عاكفة جادة نجران) وهذا التطابق يساعد الأجيال الحالية والقادمة على الفهم والربط بين المفردات الفصحى والمفردات المحلية واكتشاف العلاقة بينهما.

كون أن عاكفة من أهم قرُى نجران فأوضح لنا ذلك الجانب من خلالالحملات العسكرية وما تبقى من شواهد على ذلك؟

 من نجران تنطلق قوافل التجار – والحجاج فيما بعد , ومن أهممحطات القوافل تلك وجُوادّها حمى والجادة بعاكفة وبها سميتالجادة، وكانت بالإضافة لذلك محطة استراحة وتعبئة للجيوش وليسأدل على ذلك من موقع مسجد القائد خالد بن الوليد بعاكفة وكذلكمقر جيوش ومخيم الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عام 1352هـوأشك أن الجيش الروماني عام ( 25 ق. م.) عند غزو نجران تمركز فيها،وهذا كافي لبيان أهمية المنطقة وآثارها ومعالمها.

ما ذا تقول لنا عن عاكفة اليوم وهل تشهد تطور يساعد على السياحة بشكل مستمر؟

عاكفة اليوم تعيش عصرها الذهبي رغم كونها مرت بعصور زاهية في عصور ماضية لكن لا تقارن بهذا العهد السعودي الميمون لاتساع العمران وإقامة المشاريع والخدمات العامة وتأسيس البنية التحية الملائمة واستتباب الأمن والاستقرار وهما من عوامل تطور السياحة واستمرارها.

ماذا تقول لنا عن الثقافة الشفاهية لمدينة عاكفة وهل تنوي أن تكتب عن ذلك؟

الثقافة الشفهية في عاكفة تراث تضرب جذوره في أعماق التاريخ، فكل مثل يضرب أو قصة سردية أو حكاية أسطورية لها جذور في الماضي وأغصانها ما زالت وارفة وإن شاء الله سوف أساعد من أراد الكتابة عن ذلك.

ما أهم المعالم السياحية التي تنصح بزيارتها في عاكفة وهل هناك مرشد سياحي يساعد على ذلك؟

عاكفة منطقة سياحية أثرية غنية معروفة وأهم المعالم السياحية فيهامسجد خالد بن الوليد ومخيم الملك سعود وغار الملك سعودومنتزهات الأمراء وهي غابات معروفة في عاكفة كان أمراء نجرانالسابقين يرتادونها فسميت منتزهات الأمراء وكان معالي الأمير فهدالسديري يمارس رياضة المشي من المنتزه إلى الشارع العام لمسافة(6كم) تقريباً. وهناك غابات طبيعية وجبال شاهقة وقباب صخريةونقوش أثرية جميع ذلك جدير بالزيارة، وقد حصلت على دوراتتدريبية في مجال الإرشاد وحصلت على رخصة مرشد منطقة هيالمنطقة الغربية من نجران واتشرف بخدمة ومساعدة من أتى سائحاًإلى هناك.

كيف تتعاط مع الصخور والوديان والمفردة العامية القريبة من الفصحى في حياتك؟

لا أجد صعوبة في أسماء المواضع وأوصافها هنا لكون المفردة العامية قريبة جداً من الفصحى.

عندما تهيم بين الأودية والشعاب كم يأخذ ذلك من وقت وبما تشعر وأنت تتنقل بين تلك الأمكنة؟

التأمل والسير في الأرض رياضة مسلية وأنا أهوى السير في الأرض والتأمل من فترة لأخرى وقد يستغرق مني ذلك اليوم كله تارة في قمة جبل شاهق استشرف ما حوله وتارة في أعماق واد سحيق استمتع بنباته وغاباته وتارة أخرى في كهف أطالع نقوشه الأثرية ورسوم الحيوانات على جدرانه من أعمال أسلافنا القدماء في حينه وأوانه وكأنهم حاضرين بيننا فهنا أطلال دارسة وهناك بئر معطلة وثم قصر مشيد، والإنسان بطبعه مرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل؛ أما الماضي فيمثله أجدادنا، وأما الحاضر فنمثله نحن وأما المستقبل فيمثله أحفادنا،فعندما أهيم بين أطلال الأولين وآثارهم أدرك إدراكاً وجدانياً بانني أعيش أنا وأجدادي وأحفادي في نفس المكان والزمان وهو شعور يسوده الإعجاب بالماضي والبهجة بالحاضر والارتياح للمستقبل .

هل لا زالت الطبيعة (العاكفية) تتمتع بذات الخصب من ناحية الغطاء النباتي والحيوانات والأجواء؟

الغطاء النباتي في عاكفة ولله الحمد في الآونة الأخيرة استعاد عافيتهوذلك بفضل تحسن المناخ والقوانين المشددة التي سنتها الدولة لمنعالاحتطاب والرعي الجائر، أما الحيوانات البرية في عاكفة فللأسف بدأتفي الانقراض أو الهجرة ومن تلك الحيوانات الوعل والنمر العربيوالذئاب والضباع وبعض الطيور كالحجل والنسور. وهي لا تعدم الوجودبالكلية إلا أنها نادرة الظهور. وأما الأجواء فكانت أجواء الضباب ومايسمى بالرهمة (وهي تسمية فصيحة) موجودة قبل فترة وقد غابتعن المنطقة وفي الطقس اليوم بشائر خير تدل على عودة الاجواءالجميلة.

شَغلتك قرى عاكفة كونها مسقط رأسك بمنطقة نجران لذلك حدثنا عنالإنسان ـ حدثنا عن الرجل والمرأة والطفل؟

كانت الظروف تحتم على أفراد الأسرة التعاون في معيشتهم سابقاً فكانالرجل يمثل جانب الحماية والأمن وتوفير المستلزمات الضروريةوالمرأة عليها أن تطحن وتعجن وتخبز وتأتي بالماء والحطب وتحلبوتنتج السمن والاقط، تجمع بين ذلك كله ورعي الماشية وتدبير البيت… ففي الحقيقة يقع العبء الأكبر في تدبير المعيشة على المرأة سابقاً.

أما الأطفال فكانت الظروف لا تسمح لهم بالحصول على وسائل البهجةمقارنة بأطفال اليوم إلا أن أدنى وسيلة لجلب الفرح والبهجة تجعلهمفي قمة السعادة، بينما جميع وسائل الترفيه متوفرة لطفل اليوم ولاينال ما يناله طفل الأمس من الفرح والبهجة.

هذا نمط الحياة السائد في عاكفة وغيرها قبل العهد الحاضر. وإنتفاضلت أنماط الحياة ظاهرياً فإنها متعادلة جوهرياً أي أن الصحة معشظف العيش والمرض مع رغد العيش… أما حال الأسر اليوم فيكاديكون العبء كله على الرجل ولا ينال المرأة من ذلك كبير عناء وأصبحالناس اليوم في رغد من العيش وأمن وأمان ولله الحمد.

التراث من أهم الثقافات التي يتوجب أن يتعرف عليه الإنسان فمنوجهت نظرك من المسؤول عن نشر تلك الثقافة والتعريف بها بشتىالطرق؟

لا بد من المساعدة في حفظ التراث كل بما يقدر عليه؛ وللإيضاح فإن كل نقش أو رسم أو عينة أثرية أو موقع سياحي أو أثري أو منتزه في وادٍ سحيق أو معلماً طبيعياً في أرض خلاء خارج العمران وما شابه ذلك هو تراث وطني يجب الحفاظ عليه وصونه من العبث والاندثار، ومن المستحيل إحصاء جميع ذلك والإحاطة به من قبل هيئة الآثار والمتاحف وهيئة السياحة فضلا عن حفظه وتدوينه بدون مساعدة أهل تلك المنطقة العارفين بمواقع التراث وطرق الوصول إليه فجزء من المسؤولية تقع على المواطن والباقي على الجهات المعنية بالتراث.