عن الكاتب
٨_ _٢_ ١٣٨٢ ، بعد هذا التاريخ بعد هذا القرار الإنساني الذي أصدره الملك فيصل بن عبدالعزيز بإنهاء تجارة الرق ، لم ينتهي ولم يتحرر معها هذا الشعور المأساوي والقلق الدائم ، وتأنيب الضمير بداخلي ..
.
لقد فعلت كل ما بوسعي لأتخلص من هذا الإثم ،إن داخلي نفق مظلم لا يراه احداً سواكِ !
.
أنها عيناكِ نظراتكِ التي تتفجر غضبا و صدقاً ، يجعلني أنظر لنفسي بخجل أقف عارياً أمام نفسي من كل شيء..
لقد بذلت جهداً كبيراً لأعترف لنفسي بذنبي الحقير. وها أنا ذا مرة أخرى أعترف أمامكِ بهذه الحقيقة
وأن أضع حدّا ً لكل هذا الكذب الطويل امام شخص ما ، شخص لا يعرف أن ينافقني !
.
في وقت ما ، كان شرف كبير لي أن أكون تاجر … تاجر رق ..
عيناكِ تجبراني أن لا أقول ( تاجر بشر)
.
كل هذة الدموع والنشيج الذي أشعر به يمزق رئتك الصغيرة بعد رحيل العجوز السمراء ( صفية ) يجبرني على الأعتراف بذلك الأثم العظيم، الذي مهما حاولت أن أكفّر عنه بأموالي الآثمة المتباركة بأوجاع المظلومين ، لن تغفر لي أوجاعهم آلامهم وستظل تطاردني حتى الموت.
.
(صفية ) لقد أعتقتها لوجة الله لكن صرير صراخ أطفالها ما زال عالقاً في رأسي حتى هذة اللحظة ، يخبرني ، أن لا كفارة مقبولة ولا سلام سينعم به قلبي بعد ذلك اليوم الذي نهبت فيه أمهم من أرضها، واقتلعتها قلعا ً وبكل قوة من بين أطفالها ، تلك الصورة لا تفارقني تزورني كل مساء فتزعزع منامي الهانىء ، لقد سقط ذلك الرضيع من أحضانها وهي تبكي وتصرخ متوسلة ، سقط وفمه مازال مفتوحاً وهو يرضع من ثديها ، أختطفت ( صفية) وابنتها ( ربيعة) التي كان عمرها لا يتجاوز آنذاك سبعة أعوام ، كان عنفواني المزيف يجعلني أشعر بالإنتصار أمام هذة الغنيمة البشرية ..
.
لقد خلّصني أخي من الشعور بالذنب المؤقت وأشار علي بعد أن عدت من اليمن بغنيمتي الكبرى ، بأن لا أبيع ( صفية ) وأبنتها لأي أحد ، وأنه مستعد لأن يأويها هي وابنتها في بيته مع نسائه وأطفاله مقابل خمسون فُرنسياً كل شهر ، لقد كان أخي عابداً تقياً ، أخجل أن أقول : لم يكن بيننا إنسان غيره..
.
لقد كان مشهداً لا يوصف ، لكن جبروتي حينها أقوى من جبروت الشيطان نفسه.
.
– يؤسفني أن أقول لك وبعد خمسة وثمانون عاماً ، أنك لم تكن سوى قاطع طريق وقائد لصوص .
-لقد عوضتهما عن كل ذلك الأسى والوجع لقد منحت صفية وابنتها نخلتين من أفضل النخيل لدي .، وزوجت ربيعة حين بلغت الثالثة عشر بإبن الحارس الأسود الذي كان يحرس حينها بيتي.
-ثم ماذا ؟ هل كنت تشعر بالأمان ؟ والرضيع ؟! هل عوضته عن حليب أمه ؟! ترى ماذا كان يأكل ؟! هل كان يأكل التمر ؟ هل نمت أسنانه بسرعه ليستطيع أكله؟!
.
– لقد أرسلت من يبحث عنه وعن أخوته سنوات طويلة ولكن دون جدوى ..
-لقد أخبرتني أمي بأن حليب صفية كان يملىء صدرها بغزارة ، كان غزيراً جداً وقد كان خلال سنتين كاملتين يصب كالنهر الجاري من الجنة، ومن كثرته شرب منه كل أطفال القرية والقرى المجاورة
والآن أصبح كل أطفال البلده أخوة بالرضاع وكلهم أصبحوا أبناء العجوز صفية !
-لا تشعريني بالذنب أكثر ..
– ذنوبكم أكثر بكثير من هذة الرمال التي تمشون فوقها بتبختر ، وأثقل من رواسيها .
– لقد أدخلتها في ملة الأسلام بعد أن كانت نصرانية.
-وأي إسلام ذلك الذي كنت تعتنقه حين خطفت واستعبدت ، ونهبت ، وشردت ، وقهرت ؟!
أن تلك النكتة السخيفة التي يرددها ويتناقلها أحفادك بزهو طاغي أمام الجميع وكيف انك أدخلت ذلك الفتى اللاجئ من حروب القهر ( تهريباً) و الذي أصبح بعد ذلك مطرباً مشهوراً في بلادنا ، هذه الحادثة لن تشفع لك لن تشفع لك.
-يعم الصمت فجأة –
تردد بصوتها الخافت بحنو :
.
يا مروّح بلادك ليل والشمس غابت
عادنا الا انطربنا والتلاحين طابت
.
ثم ماذا ؟!
ماتت (صفية ) دون أي قيمة تذكر لديكم ، رغم كل هذا الشقاء طوال تلك السنين
مالت برأسها بكل هدوء ونامت الى الأبد ، رحلت من بينكم بلا رحمة ولا شفقة كما جاءت.
.
نسائكم الفاضلات طردوها أنكروها عاملوها بكل لؤم وعنصرية وتمييز بعد كل هذا النعيم والثراء والتطور السريع ، أصبحن يتأففن من وجودها في بيوتهن تلك التى كانت تنظف باحات بيوتهن القذرة ويتوسلن إليها أن ترمي لهن أحجار الودع وتقرأ لهن الحظ والمستقبل من خلاله .
.
لقد كنت أسمع ( صفية السمراء ) تردد ، “أيها القدير ، أيها القدير سامحني ” كانت أكثر ايماناً وأكثر طهراً منكم.
.
يبدو أنك أيضاً لم تنل شرف تغيير ملّتها وقد كان وهماً منك لا أكثر لتخفف على نفسك كل هذا العذاب.
.
لقد حفظتُ منها قول السيد المسيح ( أحبوا أعدائكم ، باركوا لاعنيكم ، أحسنوا إلى مبغضيكم ، وصلوا لأجل الذين يسيؤن إليكم ويطردوكم )
.
ناديا ابوساق
١٠_ ٥ _ ٢٠١٨
“نجران نيوز”