عن الكاتب
في زمن تتسارع فيه المتغيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، تجد بعض المجتمعات نفسها في مواجهة دقيقة بين الحفاظ على تراثها العريق وبين مواكبة العصر الحديث. وبين هذين القطبين، ظهرت ممارسات مستجدة تُنسب زورًا إلى العادات والتقاليد، لكنها – في حقيقتها – تُفرغها من قيمها النبيلة وتربك ملامح الهوية المجتمعيةالجمعية.
الزواج… من رابطة مقدّسة إلى وسيلة نفعية؟
لعل من أبرز الظواهر التي أثارت الجدل مؤخرًا ما يُعرف بـ”الزواج للفائدة”، حيث بات الزواج في بعض ( البعض وليس العموم ) الحالات يتحوّل من مؤسسة مبنية على الاحترام والمودة والتكافل إلى وسيلة لتحقيق أهداف مادية. تُقام حفلات زفاف مبالغ فيها – أحيانًا تُكرر مرتين أو ثلاث لنفس المناسبة – لا لغاية الفرح والمشاركة المجتمعية، بل لاستجداء الأموال من الأقارب والمعارف، وكأنها واجب مالي أكثر منها مناسبة اجتماعية نبيلة.
هذا التحوّل في المفهوم يضغط على المجتمع والأسر، ويدفع بعضها إلى الاستدانة أو التكلّف بما لا يُطيق من أجل بقاءه بعيداً عن الازدراء او الانتقاص من ابناء مجتمعه او قبيلته، مما يكرّس ثقافة المظاهر على حساب الاستقرار الأسري والاقتصادي.
حين تتحول المنصات إلى ساحات وهمية
من ناحية أخرى، شهدت منصات التواصل الاجتماعي موجة من التصرفات السلبية التي تتعارض تمامًا مع روح العادات الأصيلة. تجد تارة تسجيلات مفبركة، ادّعاءات كاذبة تحت مسميات ومصطلحات زائفة ورخيصة، إساءات للآخرين بشكل مباشر او غير مباشر.وانشغال بالمظاهر الرقمية الزائفة التي وصلت الى درجة ان تصبح حديث ابنائنا واطفالنا بل حتى في بعض مجالسنا وقد تقام لبعضها الاحتفالات وبالطبع هياط من نوع اعلى … كل ذلك في سبيل الحصول على مشاهدات أو تعاطف أو شهرة لحظية.
والمؤسف أن هذه الممارسات تسهم في تعكير صفو العلاقات الاجتماعية، وتُشيع بين الأبناء مفهومًا مشوّهًا عن النجاح والكرامة، بل وتفقدهم البوصلة التي ترشدهم نحو القيم الحقيقية التي تبني الفرد والمجتمع. ناهيك عن تغييب بعض الحقائق التاريخة والعادات السامية.
بين الجمود والتجديد: كيف نوازن؟
التغيير ليس مذمومًا في ذاته، بل هو سُنة الحياة ومطلوب؛ لكن الإشكال يكمن في نوع التغيير ومرجعيته. فحين يأتي التغيير من منطلق وعيٍ أصيل، وبهدف التيسير وتحقيق التكافل المجتمعي، فإنه يكون مباركًا ومطلوبًا. أما إذا كان التغيير يعبث بالمفاهيم ويفرّق بين الأصل والصورة، فإنه يهدم أكثر مما يبني ويجب مجانبته والانتباه منه.
من هنا، فإن التخفيف في التكاليف المجتمعية – سواء في الأعراس أو المناسبات الأخرى – يُعد مطلبًا ملحًّا لا يُقلل من قيمة المناسبة، بل يُعلي من شأنها ويركّز على جوهرها. فحين نعيد تعريف “الواجب” و”غير الواجب”، نمنح الشارع وضوحًا في التصرف، ونخفف عنه عبء المقارنات والتكلّف والتشتت.
خطورة التشويش على الهيكل القبلي
القبيلة، في أصلها، وحدة اجتماعية قائمة على التكافل، والشرف، والتقاليد الحميدة. لكن إدخال ممارسات دخيلة وغريبة يُربك هذا الهيكل، ويُشتّت المفاهيم بين الجيل الجديد، ويخلق فجوة بين الشكل والمضمون. وإذا استمر هذا التشويش، فإن القبيلة قد تفقد دورها الإيجابي كمظلة تربوية واجتماعية، وتتحول إلى إطارٍ شكلي لا تأثير له.
التغيير الإيجابي هو الذي يُبقي على الجوهر ويواكبالعصر
إن التغيير المجتمعي المطلوب اليوم هو تغيير واعٍ ، يُحافظ على ما هو أصيل ويُجدد ما يحتاج إلى تطوير.
لا نريد أن نُعلّب الماضي والقيم في قوالب جامدة، بل أن نُحييها بطريقة تجعلها صالحة لكل زمان، دون فقدان روحها ودون المساس بحقوق الوطن والاخرين.
فالعادات ليست شعائر غيبية مقدسة في ماهي كعادات، بل ممارسات بشرية قابلة للمراجعة والتقويم. ما اتضح انه يتماشي مع الدين والاخلاق والصالح العام فيبقى وما اتضح انه غير ملائم لا للزمان ولا للاجيال فيتكفل به الدهر. وما أجمل أن يجتمع كبار السن والشباب على طاولة الحوار، يفرّقون بين ما يجب أن يُحتفظ به كإرث، وما يجب أن يُراجع كاجتهاد، لنصنع بذلك توازنًا بين الجذور والآفاق.
ان اصبت فمن الله وان اخطأت فمن نفسي وابليس.
أ. دواس آل مخلص
“صحيفة المشهد الإخبارية”