المشهد الإخبارية

بعد أن باحت ملكة لار بالأسرار
اختفت كما يختفي البرق في(جوف)السحاب
احتجب القمر..
جف النهر القديم
غار الليل في أعماق الكون
ومعه أهازيج الجنيات
ذبلت عناقيد المرد القرمزي
وتبخر الشراب..
بقيت وحدي(أتصوّخ)
صياح الديكة ونباح الكلاب

كان الدخول إلى موقع الأخدود الأثري
في ليلة مقمرة حلماً يراودني منذ أعوام بعيدة
لا ريب أن المكوث في الأخدود ليلاً مغامرة
مجنونة محفوفة بالمخاطر ولكنه حلم ألقى بظلاله
على روحي زمناً طويلاً !

.
*****
خرج جميع الزوار وبقيت وحدي..
وبعد دقائق سمعت صرير
البوابة الحديدية للموقع..
وكأني بها تقول للحارس: لا تغلقني
فثمة زائر مشاكس يقبع في الداخل!
إنه المطر عندما يهطل بغزارة
ينكأ جراح الحديد فيعلو صراخه!
أقفلها الحارس وأدار محرك
سيارته وانطلق بسرعة صائم
يسابق شمس الغروب..
*****
خرجت من تلك الحجرة
الحجرية الضيقة التي لم يخصص
لها باب ولا نوافذ ولم يعد لها سقف
وفيها بقايا طلاء أظنه جيري أو ربما
من الجبس(الجص).لعلها كانت مستودعاً
لحفظ المواد التموينية أو خزاناً للمياه..
صعدت(الحدبة)وهي ربوة مرتفعة تمنح مرتقيها
إطلالة بانورامية على كامل الموقع الأثري ..
ياله من منظر مهيب
الشمس تغيب
والظلام يهبط بحذر
حتى لا يجرح كبرياء البدر..
البدر العملاق الذي بدأ يتسلق قبة السماء
ويرمي على متون الليل مشلحا فضيا..
إنه(يتبصّر)في مرايا مائية خلّفها السحاب
على ثرى الأخدود بعد يومٍ ماطر.
نجمة خافتة تخفق في أقاصي الأفق..
أظلة القلعة تزحف ببطء على الباحات
والممرات كنهر من الفحم المذاب..
نسائم الليل المشبعة بشذا البرم،وخمرةالآراك،
ورائحة الأرض الممطورة أخذت تتموج في الأرجاء..
*****
على الرغم من جلوسي وحيداً في هذه الجزيرة
الزمنية النائية عن عصري !
إلا أنني لا أشعر بالخوف مطلقاً
ربما لأنني أخوض مغامرة في سبيل
تحقيق حلمي المجنون..
(ممارسة يوغا قمرية على أنقاض القلعة الحجرية)!
مغامرة جسورة وفاتنة، أشبه بزهرة برية
تنفث عبيرها على حافة بركان خامد..
طمأنينة غريبة تغمر قلبي ربما لأنني أتربع
على تلة من الرفات الطاهر الذي وهب للمكان قدسيته.
أشعر بأنني على صهوة طوفان (يزقفني) نحو النجوم..
ياله من شعور شاهق.
منذ كنت مراهقاً وأنا أبجل هذا المكان
ولا أعرف سبب تبجيلي له.
تتهافت عليه مشاعري تهافت الفراشات
على الأريج والنور..
أذكر أنني كنت أطفئ مسجل سيارتي
عندما أمر بمحاذاته إجلالاً له..
وعندما كبرت تعمق يقيني بأن
سراً عظيماً
يرقد هنا ..
صوت قلبي يقول ذلك
وأنا رجل شرقي
أحترم عقلي
ولكني أتبع صوت قلبي!
“فالحقيقة شعور” كما
زعم شوبنهاور !
*****
بين اليقظة والغفوة مساحة من خيال
مساحة من اللاوعي
عالم عجائبي تعربد في عرصاته
التهيئات..
منطقة ذهنية هادئة كلون الفجر
حالمة كمساءات القمر
التهبتْ داخلي شهوة التجرد
من كل الأقنعة..
من كل الأدوار التي أمثلها
على مسرح الحياة..
تجردت من دور الأب،والابن،والزوج،
والموظف..تجردت حتى من اسمي!
أخذت نفساً عميقاً ثم انهمكت
في لحظة تأمل تضج بالصمت!
أبحرت نحو ذاتي على زورق من التساؤلات:
من أنا؟!
من أين أتيت؟!
ولماذا أتيت؟!
وما علاقتي بهذا العالم؟!
أبحرت قاطعاً صلتي بالماضي والمستقبل
كطفل ينهمك في متعته اللحظية إلى أقصى مدى..
ما أجمل الطفولة،إنها ذروة الإيمان،
فالأطفال لا يرتكبون مثلنا إثم اجترار الذكريات
من أغوار الأمس، ولا التفكير فيما سيأتي به الغد
إنهم يندهشون لأتفه الأشياء التي ليست تافهة في حقيقتها!!
إنهم يتساءلون
يلتصقون بالطبيعة
يستمتعون بالنظر إلى السماء؛
ولذلك يعيشون في الدنيا سعداء
وعندما يموتون يدخلون الجنة
بغير حساب !
*****
ما هذا ؟!!
أخال شخصاً مقبلاً نحوي
(نكع)الادرينالين في دمي
نكعة غزال(ذاير)..
أرجو أن يكون لصاً
فمهما يكن يظل اللص
ابن جلدتي ولن يؤذيني
على الرغم من سوء سلوكه
إنه يقترب .. يحث المسير نحوي
بخطى متسارعه كنبضات قلبي..
مؤكد أنه لص
فالليالي المقمرة تستثير
نزعات الخير والشر الكامنة
في نفوس البشر..تثير العشاق
والشعراء..اللصوص والحكماء..
المجرمين وأهل المجون..
يا إلهي ماذا أفعل لو كان شبحاً
لا .. يستحيل فهذه المدينة العتيدة
محرزة بأفواج الملائكة وبعظام المؤمنين
من الأشباح والشياطين.
لطالما كانت ملاذي
من أعاصير الواقع المصطخب
..ثم إنه لماذا أمكث هنا ليلاً
إن كانت فرائصي سترتعد لأي عارض؟!
لابد أن أواجه كل التحديات وأتعامل
مع كل الأمور التي تطرأ بشجاعة وثبات
فالهلع مقرون بالخيبة والحرمان..
فليكن هذا القادم من يكون..!
بدأت الطمأنينة تعود أدراجها
إلى قلبي..
رائحة عطره السّاحرة سبقته إلي..
صعد التلة..
وبخفة النسيم جلس بجانبي
واستقبل القمر مثلي دون أن ينبس بكلمة..
بعد بضعة شهقات من التنفس العميق الذي يبطئ
من تسارع النبض؛تحاملت
على ذعري ونظرت إليه…
رباااااااه إنها إمرأة
يالجمالهاااا
كأنها شقفة قدت من القمر
وبدافع الخوف والفضول معاً
تمعنت وجهها الناصع كحبة البرد
وجنتها تكاد أن تعكس نور القمر
لولا أنها تشربت لوناً غامقاً أظنه
بلون الشفق..
عنقها العاجي يلمع كعنق بجعة
عيناها واسعتان تتجلى
فيهما ظاهرة تكور النهار
على الليل البهيم
غدائرها منكوثة تتموج
مع النسيم كقصيدة غزلية
تتهادى في خيال شاعر…
جمال فاتن..ساحر..مربك..
ويعضد جمالها مسحة من الهيبة
تملأ ملامحها..وأسراب من الرموز تحلق في عينيها …
وصفها أفحم أبجديتي ولكني أشبهها بـ(إندرا) إله السماء
والحرب والطقس كما تصوره الديانة الهندوسية !
لم أعد خائفاً على الرغم من شعوري بأن هذه المرأة
ليست إنسية فالجمال يبعث الأمان في النفوس المستوحشة
مهما كان مصدره،.
*****
بادرت ونادتني باسمي…
طاب مساؤك يا…..
معذرة لأنني اقتحمت خلوتك وقطعت تأملك..

حاولت أن أخفي انجذابي لهذا الكائن الباذخ الجمال
زكي الرائحة رقيق الأسلوب وسألتها بارتباك مصطنع:
من أنتِ وكيف عرفتِ اسمي؟!

تجاهلت سؤالي وقالت: يجدر بي أن أقوم بواجب
ضيافتك قبل أن نشرع في الحديث
ثم صفرت بفمها تصفيرة أشبه ماتكون
بألحان(قوبرة)تهوي وتصعد نشوانة
في فضاء الحقول أيام الحصاد..

يا إلهي..ماهذا؟! أسمع صوت جريان ماء..
الصوت يزداد..نهر يتدفق بقربنا…
نسمة باردة منعشة غشيتنا…أصوات ضفادع
وجنادب وحشرات تنبعث من معطف الليل..
وبينما كنت منهمكا في محاولة استيعاب ما يحدث..
كانت إمرأة أخرى تنحني أمام جارتي الفاتنة
وتهمس بإجلال: أمركِ يامولاتي..

اجلبي لضيفنا طبقاً من المَرْد الحلو اللاسع
والتين المجفف، وكأساً من لار ممزوجة
بالزنجبيل وعسل السدر..
ثم تبسمت وانحرفت نحوي مرخيةً جفنها
على عينها اليمنى حتى انخسف فيها البدر
اسمع يا ضيفي العزيز أنا (أنديرا) ولست إندرا ..
أنا ملكة لار..سيدة جنيات النهر المقدس الذي شربته الشمس!
لابد أنك قد قرأت وسمعت عن لار وعن جنياته
في أساطير اليونان والرومان..
وقد عرفتك من بصمتك.

قلت: وأي بصمة تقصدين وأنا لم أصافحك؟!

أنديرا: إنكم تعتقدون بأن بصمة اليد هي وحدها ما يميز
الشخص ويبرز هويته ولكن ثمة بصمات أخرى
في العين والأذن ورائحة الجسم والشفاه…
وكل واحدة منها تكشف عن جانب من شخصيته.

فبأيها عرفتِ اسمي؟

أنديرا: من عينك قرأت اسمك وسيرتك..ثم ضحكت مرددة
أغنية فيروز بخامة صوت ساحرة ..
“الاسامي كلام،،شو خص الكلام،، عينينا هني اسامينا”

ما أعذب صوتها ليتها تكمل الأغنية..
في صوتها موسيقى شجية أيقظت شعوراً
غافياً في وجداني!!
الخجل يمنعني أن أطلب منها مواصلة الغناء..
تعساً للخجل كم حرمنا من مشاعر الغبطة والسرور!!
ثم سألتها مستوضحاً: فإذا كانت العين تفصح
عن اسم الإنسان فأي البصمات تكشف حقيقته وجوهره؟!

قالت: الشفاه..أستطيع أن أقرأ جوهرك وأتعرف على هويتك
السماوية من شفتيك..

تقرأينها بعينيك؟!

أجابت بنبرة جافة مفرغة من العاطفة:
بشفتي وأشارت إلى فمها!

أحسست بأن أسئلتي قد تزج بي نحو مجهول لا تحمد عقباه …
أيتها الملكة النبيلة ثمة أشياء كثيرة أريد أن أعرفها
عن الأخدود وأظنك تعرفين الكثير فجودي علي بعلمك..

تبسمتْ بزهو من يمتلك بحراً من المعرفة…وقالت:
أنتم لا تعرفون عن هذا المكان سوى حادثة الأخدود
ومازلتم تدورون في هذه الحلقة وانفصلتم
عن المشهد التاريخي الكامل للمدينة.
إن الأمم المتحضرة تسطر تاريخها في صفائح
ورقائق من معدن نفيس وجلود وأوراق فاخرة تقاوم
عوامل التآكل ثم تكنزها في خزائن مصونة كالتي تحتنا الآن!
أما الشعوب البدائية…
فقاطعتها قائلاً: ولكن التخزين يتطلب ظروفاً…
اعترضت استفهامي بحزم: الطبيعة هنا تحمي الكنوز
بطريقة تشاهدونها ماثلة أمامكم ولكن لاتدركونها..
لقد أسدلتْ أغصانها على أخطر المعالم وسمحتْ للضوء والهواء
وحدهما بالنفاذ إلى أعماق الخزائن السفلى.
واستطردتْ: أما الأمم البدائية فهي التي تنقش تاريخها بالإزميل
على صفحات الجبال كالتي تنهمكون في لملمة تاريخها !
إن واقعة الأخدود مجرد بيت شعر جميل ضمن قصيدة فائقة الجمال
نظمها القدر وعلقها تميمةً في جيد مدينة الشمس!!
لار هذا الذي تسمع جريانه هو نهر ينبع من نجران
ويصب في بحر العرب، نبتت على ضفافه العديد من المدن والقرى
أهمها نجران والفاو، فالحضارات العظيمة لا تنشأ في الصحراء
بل تنبت على ضفاف الأنهر..ونجران هي حاضرة النهر..
وإن شئت فقل حاضرة البحر. فالنهر يسمى البحر في لغتكم
كما تعلم. والأخدود مرتبط بالنهر!
*****
أسئلة كثيرة تزاحمت في خلدي وهي تتحدث ولكني آثرت الانصات
خشية أن أقطع استرسالها وأحرم نفسي شيئاً من المعلومات العجيبة
المتدفقة على لسانها ..

رمقتني بنظرة من قرأ أفكاري -وهي فعلا تقرأ أفكاري وإلا كيف عرفت
أنني شبهتها بإندرا الجميل المهيب – وقالت: أعلم أنك تريد أن تسأل وتناقش
ولكن ليس لدينا الكثير من الوقت؛ فجنيات لار يحتفلن هذه الليلة بعيد ميلادي..
ألا تسمع الغناء والأهازيج..؟! إنهن يضعن اللمسات الأخيرة للحفلة.

كل عام وأنتِ بخير أيتها الملكة الجليلة.لو أنني علمت بهذه المناسبة
قبل قدومي لأحضرت معي هدية لجلالتك !

ضحكت: تقصد كل ألف عام وأنا بخير !!
الجن والأفاعي لا يموتون يا صديقي..
إننا نعيش على قارعة الدهر نشهد تقلب الأزمان
ونرصد مواكب الراحلين جيلا بعد جيل..
إننا نجني الأسرار العظيمة من شفاه الموتى؛
ونتاجر بها في سوق الأحياء؛
فالأموات وحدهم يُكشف لهم الغطاء
ويبصرون الحقيقة؛ لكنها تعلق في أفواههم!!
اسمعني..هذا المساء لن أبعث فيك كل الأزمان
التي مرت من هنا دفعة واحدة…
لأنك لن تستوعب وقد يتضرر عقلك؛
لكني سأنتقي باقة منوعة من المعلومات الهامة
وأنثرها بين يديك.وإن قدر لنا أن نلتقي مرة أخرى
فلك أن تستبين ما استغلق عليك فهمه.
فلا تكثر من الأسئلة..أما هديتي فهي وجودك الليلة
في هذا المكان. فكل عيد ميلاد احتفل به ترسل إلي السماء
إنسياً ألتقيه وأتحدث معه وفي ذلك إشارة لشعبي وبرهان
على ملكي ونقاء عرق سلالتي الحاكمة..وأنا التي سأهديك
شيئاً قبل أن تغادر…نعود لحديثنا بعد أن تأكل…
*****
وفي تلك الأثناء وضعت الخادمة الطبق بين يدي..
“راودتني فكرة ماكرة فأردت أن اتخذ من الطبق
ذريعة لأتمعن جمالها”..أيتهاالجليلة..هل لي أن أشعل
مصباح جوالي حتى أرى الطعام؟!

لا .. لا تفعل..فلو أضأت مصباحك لاختفيت من أمامك
ولأفقتْ من غيبوبتك الشهية. جنيات لار لا يخرجن ولا يتبرجن
إلا في الليالي المقمرة..ثم إن نور البدر ساطع بقوة حتى أنني أستطيع
أن أعد أسنانك لو ضحكت…ثم ضحكت واضعة يدها على فمها ..
ألم تقل يوماً وأنت على هذه الربوة :
أغمِضْ عينيك ثم تحسّسْ
ذاتك الغارقة في الظلام..
فإنّ الشمس التي تمدُّ
الكون بالنور ؛ هي ذاتها
الخِمارُ الذي يحجبُ رونقَ
القمرِ وتلألؤاتَ النجوم!

تمتمتُ في سري: إن هذه الملكة تعلم عني كل شيء وتقرأني
ككتاب مفتوح بين يديها، فلا جدوى من المخاتلة والتحايل!!
فجأة شعرتُ بحفيف أجنحة فوقي فنظرت إلى أعلى وإذا بطائر
أضخم من الديك يحلق نحو الشرق..وقبل أن أسألها عن خبره قالت:
هذا هو الهدهد الأبيض العملاق يختفي بالنهار وفي الليل يأوي
إلى تجويف في جذع السدرة الجنوبية نسميه كهف السدرة..
ولا نعرف عنه أكثر من ذلك!!

أخذنا ننظر إليه حتى اختفى..
ثم التهمتُ عنقود المرد بشراهة
وأكلت حبة تين لذيذة
وشربت كأساً زجاجيةً كأنها ملئت من رحيق مختوم
ومزجت بقطرات من تسنيم!
زاد انتعاشي وانشرح صدري …فقلت بحميمية مفرطة:
هلّا أكملتي حديثك يا مولاتي..ووضعت كفي على كتفها
في جرأة لا أعزوها سوى لمفعول الشراب اللاري!!
اقشعر بدني..وشعرتُ(بخُلعة)شهية تسري في دمي..
كأن يدي هتكت الغلاف الجوي والتصقت بقطب جليدي
في أحد الكواكب. ولكني سرعان ما تداركت الموقف
وأعدت يدي إلى مجالها الطبيعي!

تنحنحتْ ..حسناً إن هذه القلعة الواسعة التي تشاهدها -وأشارت
بيدها إلى المنطقة المركزية في الموقع- هي قصر النبي سليمان
بن داوود الممرد بالقوارير!!..والغرف الحجرية المتناثرة
هي حجرات القصر ومستودعاته وملحقاته..
وفي زيارتك القادمة-إن شاءالله- سأبعث فيك زمن القصر
ونتجول داخله… ستنذهل من روعة تصميمه وهندسته وجمال
زخرفته ومن العقل الجبار الذي أبدعه..إنه تحفة معمارية..
كأنه سماء ليلة مرصعة بالوميض،هبطت على صفحة نهر مقدس!
حينما تدخله ستستنشق هواءً نقياً مشبعاً بالأكسجين المنعش،
وستعمل خلايا دماغك بطاقة مضاعفة لم تعهدها من قبل؛
وذلك من تأثير الزجاج الذي رُصّعت به جدران القصر وواجهاته !!
الزّجاج هو سر من أسرار هذا المكان..
لقد جلبته عفاريت الجان من بقعة محددة في أعماق المحيط الهادئ..
دعنا نصطلح على تسمية هذا الزجاج (أنفاس البحر)
أنفاس البحر تفوق صلابته صلابة الألماس..
ومع أن الموت ملازم للجمود
والحياة مقترنة باللدونة والحركة
إلا أن أنفاس البحر قد جمع
بين الضدين ..الصلادة ونبض الحياة
فهو عبارة عن كائن حي ينمو ويتنفس!!

(فغرت)فمي(وبخقت)فيها مشدوهاً من هول ما أسمع!!

واستمرت في وصفها للقصر :
ويجري من تحت القصر قناة مائية اشتقت من النهر تتخلل
ممرات القصر وبعض غرفه الخاصة، القناة مسقوفة
بألواح زجاجية شفافة ترى أسراب السمك تتموج تحت قدميك.
أنفاس البحر لا يوجد سوى في موقعين وحيدين على هذا الكوكب..
هنا في الخزائن السفلى،وفي بقعة محددة في أعماق المحيط الهادئ
إحداثياتها منقوشة على صفيحة من البلاتين مكنوزة تحتنا..
وهذا الحجر الكريم يتنفس ويأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو،
وينتج غاز الأكسجين على الدوام، فهو لا يعكس عملية التنفس ليلاً
كما يفعل النبات..كما أنه يمكن استزراعه!!

فما قيمته وأهميته في عصرنا الحاضر؟!

إن أفتك سلاح في عصركم هو السلاح النووي، فالدول العظمى
تمتلك القوة النووية ولكنها لا تمتلك قوة الردع النووي!..
فلو نشبت حرب نووية فإنه لا يوجد ملاذ آمن على الأرض،
سوى الفرار إلى الكواكب!! إن من يمتلك رأساً نووياً واحداً،
ومن يمتلك ألف رأس كلاهما في خانة واحدة..لأن أي منهما
يستطيع أن يشعل فتيل الحرب ويفجر العالم؛ لكن لا يوجد دولة
تستطيع أن تحمي نفسها من هجوم نووي.فقوة الردع الحالية
هي تعزيز الترسانة النووية بأكبر عدد ممكن من القنابل
والصواريخ.وهنا يكمن الخلل في معادلة التسلح النووي!
وأنفاس البحر هي قوة الردع النووية الواعدة!!
فهذا الزجاج يشكل الملاذ الوحيد حيث سيبنى منه ملاجئ
مغلقة آمنة مقاومة للضربات والانفجارات ومفعمة بالأكسجين
والضوء وظروف الحياة الطبيعية..
وهذه الميزة ليست الوحيدة لأنفاس البحر فله قيمة اقتصادية
تفوق قيمة الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة مجتمعة!

هل ثمة أحد غيرك يعرف سر أنفاس البحر؟!

جهاز استخباراتي دولي وحيد لديه الكثير من الشكوك
حول أنفاس البحر وحول خواصه الفيزيائية والكيميائية
وأماكن تواجده !

فما العلاقة بين النهر والأخدود؟!

لن تطيق الصوم عن الأسئلة!!
حسناً..عندما تنصرت نجران أراد رهبانها وقساوستها بناء كنيسة
عظمى في فناء ضريح سليمان، وكنيسة ثانية على أنقاض هيكله،
لاعتقادهم بأن دين الله واحد وإيمانهم بجميع أنبياء الله وكتبه..
فثارت ثائرة ملك اليهود لأنه لا يؤمن بوحدة الأديان كما يؤمن
نصارى نجران؛فعقيدتة تتمحور حول عرشه ونفوذه السياسي؛
وقد رأى في ذلك مساس بهيبته وهو المؤتمن على مكتسبات يهود العالم!
فغزا نجران وأحرق المؤمنين في القناة النهرية ولم يرهق جيشه ويكلفهم
بحفر أخاديد كما تتصور…فالقناة وعلى الرغم من تعاقب الزمان
إلا أنها كانت عميقة زمن المحرقة..

فأين يقع ضريح سليمان وهيكله(معبده)؟!

أترى تلك الغرفة ذات النقوش المنغرسة
في قلب الدهر..الكف والحصان والأفاعي؟!

نعم أراها.

تلك الرسومات كانت محشوة بحبيبات الألماس ومغطاة بزجاج
ملون من أنفاس البحر..وكانت الحجرة الملكية تزدان بقناديل
من ذهب ومباخر من فضة مثبتة على جدرانها !!
تلك الحجرة هي ضريح سليمان!!

قلت: أوليست حجرة الحصان والأفاعي هي الكنيسة العظمى..
كعبة الأخدود..قبلة النصارى المؤمنين في أصقاع المعمورة
والتي اشتق منها اسم هذه القرية(القبلة) وتحورت مع الأيام
حتى صارت(القابل)؟!

لا .. الكنيسة توجد في فنائها الجنوبي
وفيها أحرق ملك اليهود الرهبان الذين تكدسوا هناك،
أما بقية المؤمنين والمؤمنات فأحرقهم في القناة..
أما الهيكل فيقع شمال السدرتين..في بقعة مباركة تعاقبت عليها
أديان السماء والتصقت برخامها الأبيض الممزوج بالحمرة جباه
الموحدين على مر الزمان… هيكل..كنيسة..مسجد..معابد عقبتها
معابد أناخت رحالها هناك..ولو نظرت نظرة جوية للهيكل
لرأيته مجمعاً دينياً كبيراً مطموراً تحت التراب… وكذلك توجد
في هذه المدينة مراكز دينية ومجمعات تجارية وسكنية أخرى مطمورة
في التراب لن ترى معالمها سوى من خلال نظرة جوية.
“ثم تنفستْ الصعداء وغرست أناملها في الثرى” وقالت:
هنا كنوز سليمان،عملات من ذهب وفضة،أحجار كريمة،
تماثيل من زجاج ونحاس، مخطوطات في رقائق وصفائح
مصنوعة من معادن ثمينة،كتابات ورسومات داخل بلورات
أحجار كريمة شفافة كتبت ورسمت حرقاً باستخدام عدسات
تجميع الضوء. وهنا تمثال ذهبي للنبي موسى صاغته الجن
بدقة متناهية..هنا عرش بلقيس وهو ليس كما تتصور..
هنا جفان وقدور راسيات وطواحين حجرية عملاقة
بعضها تحت الأرض وبعضها فوقها!!

كلامكِ خطير قد يفتح عيون الصهاينة على وطني…
ويفتح شهية لصوص الآثار والدفائن كذلك.

قالت: أما حكام اليهود فلو خرج سليمان من قبره
-وأشارت نحو غرفة الحصان والافاعي- ودعاهم
فلن يأتوا إليه لأن أطماعهم قد ترسخت على ضفاف
البحر المتوسط. ولا تنس أن الهولوكوست هو ورقتهم الرابحة
التي يتكسبون منها في محافل السياسة الدولية ومن الغباء
أن يوجهوا أنظار العالم إلى هولوكوست أعظم هم من اقترفوه
في حق المسيحيين!!
ثم إنهم يعلمون أن هذه المدينة عصية منذ الأزل على الطامعين،
وحصينة بأهلها الذين يلتفون حولها في المهمات كسياجٍ من لهب؛
فقد قرأوا في كتاب من كتب أسلافهم ما نصه: “خُلِق الناس من طينٍ
لازب، وخُلق أهالي مدينة الرعد من رماد”. وأما كنوز سليمان
فهي محروسة وبعيدة عن متناول اللصوص مادامت
في عهدتنا -وتبسمت تبسم الحارس الأمين-..ولكن من يدري
فغداً قد تصبح إرثاً عالمياً تحت إشراف اليونيسكو وحينها تصبح
في عهدتكم، ولكننا سنظل نشارككم حمايتها. ولو حدث
ذلك فسينتعش اقتصادكم،ويغتنيفقراؤكم،وتصبحون قبلة العالم
دون أن يلمس قنطار واحد من هذه الكنوز. وستصبح بلادكم
مزاراً سياحياً عالمياً فريداً من نوعه. وبامتلاككم سر أنفاس البحر
ستصبحون دولة عظمى تمتلكون قوة الردع النووية التي لايمتلكها
سواكم. وليس هذا فقط ما سيرفع رصيدكم الحضاري والاقتصادي
والعسكري ويعزز مكانتكم بين الدول؛ بل هناك سر آخر !

ما هو ؟!

إنه جبل الشمس!!

التزمتُ الصمت والدهشة والنظرة البلهاء المحدقة في الفراغ..
وأنصت لكلامها عن جبل الشمس!
*****
عندما انفجرت الشمس انفجارها الأول تطايرت منها جمرات
عظام نحو كوكب الأرض وتناثرت في أربع مدن منها نجران.
وهي الآن تبدو للناظر كجبال طبيعية ولكنها ليست كذلك.
ولذلك نسمي نجران مدينة الشمس نحن معشر الجنيات.
لهذه الجبال الشمسية فوائد روحانية ومادية جمة. ومن فوائدها
المادية أنها تحتوي على نصف احتياج العالم من المعادن المستخدمة
في صناعة الالكترونيات وأجهزة التقنية والاتصالات…وهذه المعادن
نادرة جداً والطلب عليها يتزايد مع ازدياد أعداد سكان الكرة الأرضية
وتحولها إلى قرية رقمية. وليست كل هذه المعادن قابلة لإعادة التدوير
فالكثير منها تستخدم لمرة واحدة وهذا ما يعاظم من قيمة هذه الموارد.
*****
أخبريني عن أسرار الرسوم والكتابات المنقوشة في الموقع..

قالت على عجل: لم يعد بوسعي أن أظل معك
طويلاً لكي أخبرك بدلالات كل النقوش ولكن
اختر نقشاً واحداً أشرحه لك؟!

فاكشفي لي إذاً سر نقش الأفعى الملتفة حول نفسها حتى التقى
رأسها بذيلها في حين يحرسها ثعبانان ضخمان عن يمينها
وعن شمالها، الثعبان الأيمن رأسه للأعلى والأيسر رأسه للأسفل..
أشعر بأن هذا النقش من أخطر نقوش الأخدود وأنه يتضمن
ترميزاً عالياً..”تابعت حديثي مستعرضاً أمامها قدراتي
على التحليل وفك الرموز”! إن هذه الأفعى تشبه الفلك
في استدارتها،أو دورة حياة سرمدية انصهرت فيها نقطتا
البداية والنهاية..لعلها ترمز إلى إكسير الخلود!!

تبسمتْ: لقد قنصت أخطر النقوش على الإطلاق..
بشأن نقوش الأفاعي فالأفعى هي أكثر كائن حي له رمزية
في الديانات والحضارات القديمة كالحضارة السومرية
والهندية والصينية والمصرية وفي معتقدات الإغريق والرومان
والأفارقة وغيرهم. فبعض الشعوب عبدوا الأفعى ونقشوها على جدران
معابدهم وفي تيجان ملوكهم، وبعضهم اتخذوها رمزاً للخلود لأنها
تغير جلدها وتنبعث من جديد. وفي بعض المعتقدات ترمز الأفعى
لحراسة المياه العذبة كالأنهار والآبار وحراسة الكنوز والدفائن
الثمينة لما لها من قوة وسطوة بأعدائها والبعض يستخدمها كتعويذة
من السحر والعين والأرواح الخبيثة. كما ترمز للمعرفة
وخاصة في مجال الطب.

قلت بنبرة ساخرة: أما عندنا نحن العرب فهي تجسد الشر المطلق
لما تمتلكه من عدائية وسميّة ومنظر كريه يذكّر بالموت الزؤام،
على العكس من الثعبان الذي له حظوة ولو بسيطة في تراثنا الشعبي النجراني،

فأذكر بأن جدي كان يوصينا بعدم قتل(الهايش)مالم يبدر
منه ما يوحي بالشر!

قالت: لقد تسلل إلى ثقافتكم الكثير من معتقدات ورموز الأمم البائدة
ومن الأمثلة على ذلك اتخاذكم الأفعى شعاراً لصيدلياتكم!..
وأنفاس البحر أيضاً مذكورة في تراثكم النجراني خاصة
فقد بذرها في ثقافتكم المحلية حبر من أحبار اليهود كان يعلم
أنها من كنوز سليمان ويعلم أن هذا قصره!
ففي زمان الحبر اليهودي كانت شظاياً من أنفاس البحر متناثرة
على أرض الموقع،فأشاع بين أهالي نجران أن لا أحد يمسك
بزجاج الأخدود لأن كسر الزجاج ستلعن من يمسكها ويرى
صورته فيها!! فخافها الناس وتجنبوها وأسموها(اللعّانة).

سألتها: أفهم من كلامك أن أنفاس البحر كانت منثورة على الأرض؟!

نعم كانت منتشرة.

ولكنني أزور الموقع باستمرار ولا أشاهد قطع الزجاج هذه..
فأين اختفت؟!

لا أملك الكثير من الوقت لأجيبك !!..
نعود لنقش الأفعى المستديرة المحاطة بثعبانين..
إن هذا النقش يرمز إلى طاقة روحانية أزلية كامنة
في الإنسان وتحديداً أسفل عموده الفقري مخزونة
على شكل دائرة صغيرة في عظمة تسمى(عجب الذنب)
وتسمى (العصعص)..ولها اسم آخر ستخبرني به أنت
ولكن بعد أن أكمل شرحي..هذه الطاقة ورد ذكرها
في كثير من الحضارات والديانات القديمة
ولها مسميات عديدة بلسان كل أمة ولكنها ورغم انتشارها
ظلت من أعظم الأسرار المستغلقة على الفهم
لاتصالها بالفلك وبالعالم الروحاني..هذه الطاقة تحفزها
العبادات،وممارسة الشعائر الدينية،وزيارة المقدسات،
والمطالعة،والتعلم في أي مجال كان،والتفكر،
والتدبر في خلق الله،واستشفاف الحكمة الإلهية المبثوثة
في صفحات الوجود..فيشعر المرء بهذه الطاقة تتحرك داخله.
ولكن تفجيرها التام يحتاج إلى طقوس خاصة ووسط روحاني
ملائم كالذي نحن فيه الآن.فهذا المكان يعتبر من أقوى
شواحن هذه الطاقة. ثم إن هذه الطاقة ليست حكراً على الزهاد
ورجال الدين بل متاحة لكل الفئات وقد تحررت في علماء
وأطباء ومهندسين ومخترعين وفنانين فكانت لهم بصمات خالدة
في صناعة الحضارة الإنسانية.وإن كنت من المحظوظين
وتحررت داخلك فإنك ستشعر بها تنبثق من قاعدة عمودك الفقري
وتصعد إلى رأسك بشكل لولبي أشبه بحيتين ملتويتين؛وعندما تصل
إلى رأسك ستنفتح عينك الثالثة الكامنة في جبينك حيث مركز الخيال
والتصور؛ فتتصل هذه الطاقة بطاقة كونية هائلة؛ وحينها تغشاك
موجة استبصار منعشة كغمامة شتوية..
ذاك هو استيقاظ الذات السماوية المخزونة في قعر كيانك!!

“أحسستُ بالتشتت التام”..كرماً
وتفضلاً ..وضحي لي أكثر

أكملتْ شرحها:
إنها طاقة تتولد
من التأمل العميق
والانكشاف على الذات
إنها ومضة إدراك خارقة
تنوض في غياهب
لاوعيك ثم تتمدد كضوء
الفجر في سماء عقلك
إنها إفاقة من الغفلة
انتباه من الأوهام
انتفاضة ونهوض
من أنقاض العادات الخاطئة
والمعتقدات الفاسدة
إنها انهمار معرفي يطهّر
نفسك من رذائل الأخلاق
وسقيم الأفكار ويرقيها
في سلم الكمال الإنساني..
أما الثعبانان اللذان
يحفان بهذه الطاقة
فهما الارتقاء الشاهق
أو الهبوط الساحق !!
وهذا تأكيد على خطورة
هذه المعرفة المحرمة
على غير مستحقيها
الذين نذروا أنفسهم
للحُب والسلام
وخدمة الإنسانية!

وكيف أحرر هذه الطاقة؟!

حاصر وحش الشهوات القابع في
نفسك حتى تسد عليه جميع المنافذ
ولو تمعنت النقش جيداً لرأيت أن الأفعى
بالتفافها على ذاتها تخنق وحشاً على شكل
تنّين يزأر داخل محيط التفافها!!
نفذ التوجيه الرباني الآمر بالتفكر والتدبر..
واحرص على زيارة شواحن هذه الطاقة..
أضمر الخير للجميع. ولكن كما ذكرت لك..
فتحريرها التام يحتاج إلى طقوس خاصة
لعلي اطلعك عليها في قادم اللقاءات..

قلت: لستُ مستعجلاً على تفجير
هذه الطاقة النورانية في أعماقي؛
لأنه يعز علي فراق بعض عيوبي!!

قهقهت بضحكة أظنها من قلبها:
والآن أخبرني أنت ماذا يسمي جدك
هذا المكان؟!

أجدادنا يسمونه(الخَتْم)

وماذا يسمونه أيضاً؟!

ويسمونه(القعصوم).

قالت: الختم ..الخاتمة..المنتهى.
القعصوم..العصعص..عجب الذنب..
مستودع الطاقة الكونية،والعظمة
التي يخلق منها الإنسان
يوم القيامة ثم يحشر
إلى أرض المحشر..
ثم رق صوتها حتى صار كنسمة الربيع
وأخذت تترنم وتغني بصوت ملائكي يخترق حجب الليل:
هنا أرض المحشر
هنا مهبط ملائكة السلام
هنا مدينة الشمس
هنا حاضرة البحر
وهنا منارة المجد التليد..
هنا شعلة من النور
الكلي الذي أضاء العدم
وكلما أوشكت أن تخمد
جاء فارس من أقاصي الأرض
وقبسها من جديد..

ثم خفت غناؤها بتدرج حتى
تلاشي مثل الصدى..
*****
صوتها العذب أسكرني
ومعلوماتها العجيبة صدمتني
ولكني حتى الآن لا أمتلك دليلاً ملموساً
يكون مصداقاً لكلامها..
سيدتي: تحدثتي عن معلومات خطيرة
ومريبة…وقلتِ بأنها غيض من فيض
وأنك لم تبعثي في عقلي كل الأزمنة الغابرة رأفة بي..
وكما تعلمين فالإنسان بطبيعته نسّاي، والمشككون كثر؛
فلو وهبتني مخطوطة أو كتابا أو صفيحة معدنية توثق
هذا التاريخ العظيم وتكون برهاناً على كلامك.

ردت بثقة: لك ذلك ..فهديتي إليك ستكون عربون صداقة
وفي الوقت ذاته برهانا يفلج المكذبين..ولكن لِمَ لا تكتب
أنت رواية عن هذا المكان الذي يشبه الزمان؟!
سأدعمك بالوثائق التاريخية التي تحتاجها..فالمدد الوثائقي
عليّ والحبك الروائي عليك،فأنت ابن عصرك وأنا ابنة الدهر..

وأنا موافق..ولكن معلوماتك
مغرقة في الخيال وهي أقرب للأساطير
منها لحقائق التاريخ…

ردت باستهجان:
الأساطير نسق من أنساق
المعرفة..إنها حقائق
دفنتها رياح الزمن
والناس هم من بنوا على أنقاضها
صروحاً من خيال..
كل اسطورة تتصل بحقيقة
غائرة في أعماق المخيال الثقافي
لكل أمة..
ثم إني أعرف أنك تكره العناوين
المكرورة، والمواضيع السطحية
المتشابهة وهذا الموضوع خارق
للنمطية،شاهق على أخيلة
الكتاب والمؤرخين والفنانين..

صدقتِ فالتفرد هو طموحي،
والخوف من السقوط في حفرة التكرار
والعناوين المستهلكة هو ما كان يعيقني عن الكتابة..
أما في حضرة هذا العنوان العجيب المهيب
الذي ستعززينه بالأدلة الدامغة؛ فسيرعف قلمي بما شاء الله،
ولكني أحتاج إلى نصحك وتوجيهك فهي تجربتي الأولى
في كتابة الرواية عامة،والتاريخية على وجه الخصوص.

قالت: حسناً تفعل ..
لتكن رواية تاريخية
تتداخل مع العصر
من خلال أحداث مثيرة
تولد في القراء
انفعالات سحرية
لم يعهدوها من قبل ..
اصنع اسطورة مدينتك
سطر لها ملحمة استثنائية
تندمغ في ذاكرة الأجيال..
انسج من خيالك شخصيات
اسطورية وأسبغ عليها
وجوداً حقيقياً ..
اجعل من الرواية ميداناً تحتدم فيه المنافسة
بين أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية
التي ستسلط أقمارها الاصطناعية على نجران
لتسترق نبض البحر وأنفاسه !
صور بالبعد الثلاثي حالة الارباك التي
ستعيشها الأوساط العلمية بعد
ظهور نتائج تحليل عينة أنفاس البحر!
استفز شغف الغربيين
لاكتشاف كنوز الشرق
المدفونة في نجران..
ليكن ظاهر روايتك تجديف
جامح وباطنها صدق مكنون ..
غلف الأسرار العظيمة بغطاء
من الترهات والترميزات
اجعلها رواية ذات أبعاد تاريخية
اجتماعية سياسية علمية وكونية..
اكسها بحلة من الجماليات الأدبية
وادفعها بكل ماتمتلك من موهبة لتتخطى
الحدود القطرية وتتمدد على خارطة العالم
اكتبها بنفس التوليفة الذهبية
التي أبدع بها بيتهوفن سيمفونيته
الخامسة(ضربة القدر)
والتي تتصاعد أنغامها
وتتناقص ولكنها تظل متمحورة
حول نغمة ثابتة ملازمة
للصعود والهبوط..
نغمة أصيلة تلازم
كل انبثاق لحني وكل تفعيلة
جديدة لتحافظ على
وحدة السيمفونية واتساقها
مهما توالدت وتفرعت!
إنها النغمة النواة!!
لتكن نواة معزوفتك الروائية
هي غائية وجود الإنسان
والطاقة الكونية الكامنة
في أعماقه!

حسناً أيتها الجليلة سأكتبها وأسميها (انديرا)!

إياك أن تفعل ..
بعد أن تفرغ من كتابتها سمها(أنفاس البحر)!
ثم أدخلت يدها بين صدرها
وثوبها وأخرجت شيئا:
تفضل هذه هديتك..
عظمة سلحفاة منقوش
عليها وثيقة تاريخية هامة
بلغة ستديخ عقول مترجمي
عصركم!!

تناولتها وأنا أشعر بنشوة النصر
لأنني أصبحت الآن أمتلك دليلاً مادياً

ثم مدت يدها نحوي مرة أخرى: وهذا(فص)كريم
من أنفاس البحر…خذه

أخذته منها بلهفة وحذر..
لك وافر شكري
وغزير امتناني
على الهدية الثمينة
أيتها الباهية المهيبة..
*****
غرقنا في صمت
يتمنطق بجريان النهر
سحابة نحيفة تحجب
ولا تحجب وجه القمر
رذاذ بدأ يهمي بلطف وكأنه
يُربّت على رفات المؤمنين
الطيور في أعشاشها ترمقنا
بنظرات كسلى تتخلل
الاغصان المبللة ..
سمعتُ خطى الوداع
(يَخُبُّ)فوق أنفاسها..
سكرة الإحساس بجمالها
تدفقت في شراييني
ونشوة الظفر بالأسرار
حلقت بمزاجي عالياً..
استوفزتْ للنهوض وهمّت
بتوديعي فبادرتها:

مولاتي..أرغب أن تقرأي
هويتي السماوية..
أريد أن أعرف من أكون؟!

عادت واطمأنت في جلستها
عليك إذاً أن تقبل شفتي..
قالتها هذه المرة بنبرة نديّة!!
انسكبت الحروف من مبسمها
كما تنسكب قطرات الندى
من خدود الورد !!

سيدتي . . سأقبل رأسك
جبينك..ظاهر كفك وباطنها؛
أما ثغرك فلا أستطيع..
ثغرك أقصى حدود مقاومتي،
على تخومه ستنهار روحي،
شفتاك بوابة العناق الأبدي،
وأنا لم أزل من أبناء تلك المدينة
الرازحة تحت لدغات عقارب الساعة!

همستْ: لا يقرأ الشفاه إلا الشفاه..

تضعضع موقفي وغرقتُ في بحر من التساؤلات الصامتة:
إن الفرصة العظيمة تعرض للإنسان مرة واحدة في حياته..
لقد نصحتني هذه الملكة أن أحاصر تنين شهواتي إذا أردت
أن أحرر طاقتي النورانية؛ ولكن كيف الخلاص وشهوة تقبيلها
تحاصرني وتعترض طريق معرفتي لذاتي؟!
لماذا تحيط هذه المعرفة نفسها
بشهوة مُتأججة كما تفعل الآثام
والذنوب العظام؟!
هل تكون معرفة المرء بنفسه
معرفة محرمة؟!
كيف تكون محرمة وهي الخطوة
الأولى في طريق معرفة الله؟!
هل أقمع شهوتي
أم أخوض غمارها؟!
أشعر وكأنني(سأطمر)
في هوة كونية سحيقة
وأنخرط في أمعائها
اللولبية التي تفضي
إلى المجهول!
أقف حائراً على
حافة قرار خطير؛
رغبة عارمة
تدفعني لهذه
القُبلة الشهية..
وحذر مدوّي
يحجزني عنها..
يا إلهي!!
أذكر أنها قالت:
“إننا نجني الأسرار العظيمة من شفاه الموتى؛
ونتاجر بها في سوق الأحياء؛
فالأموات وحدهم يُكشف لهم الغطاء
ويبصرون الحقيقة؛لكنها تعلق في أفواههم”!!
ماذا تقصد؟!
ياااااه ..أكاد أجن من التفكير..
ماهذه القبلة اللعينة؟!
إن رهبتها أقوى من الموت ذاته!
وأخيراً وبعد عشرات الأنفاس
الساخنة المتسارعة قررتُ
أن أعرف ذاتي !!
أذعنتُ لقدري
وهممت بالاقتراب
من شفتيها..
اقتربتُ أكثر..
أكثر وأكثر حتى شعرت
بأنفاسها تغشى وجهي
كنسيمات السَّحَر المفعمة
بأريج الحقول،وتراتيل الزهّاد
،وهمسات العاشقين..
التصقتْ شفتانا؛ فصاااح
ديك في المزرعة المجاورة
وأيقظني من هجعةٍ عميقة !!

أعدت مقعد
سيارتي الممدد
إلى وضعه،
وجلست شارد الذهن
مشوش التفكير..
تذكرتُ بأنني ليلة
البارحة أرجعت المقعد
للوراء حتى أسترخي قليلاً
بعد لفات مشي
عديدة على الرصيف
الذي يحزم موقع الأخدود الأثري
من جهة الشمال.
يااااه..لقد غلبني النعاس
فرقدتُ على ضفاف الفيموني،،
كانت هجعةً هانئة وحلماً ساحراً !!
ضربتُ جبهتي براحة كفي
؛ ثم انطلقت مسرعاً نحو الشمس
التي بدأت تُشرق..
ثمان دقائق هي الفرصة المتاحة
لتأمل القرص البرتقالي المهيب؛
بعدها سيتوهج ويختفي خلف
هالة من الانفجارات الهيدروجينية
الهائلة !

النهاية

شارك هذا الخبر

آخر الأخبار

عرض سعودي «غير قابل للرفض» للاكازيت

الأربعاء, 17 أبريل, 2024

دراسة تحدد أفضل وقت في اليوم لممارسة الرياضة “لخفض خطر الوفاة المبكرة”

الثلاثاء, 16 أبريل, 2024

القوات الجوية تُشارك في التمرين الجوي المختلط «علَم الصحراء» في الإمارات

الثلاثاء, 16 أبريل, 2024

في شكره لموهوبي نجران وزير التعليم .. أسلوبكم حديث ويرتقي بالعملية التعليمية

الثلاثاء, 16 أبريل, 2024

جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعلن عن 116 وظيفة أكاديمية

الثلاثاء, 16 أبريل, 2024

ألبوم الصور

كتاب الرأي

2 Comments

  1. محمد هادي آل هتيله يناير 7, 2019 في 3:42 م - الرد

    أبا حمزه
    لغه باذخه الجمال والوصف جمعت كل عناصر الابداع في هذه المقطوعه السموفونيه
    لابد من تجسيدها كروايه تستحق النشر
    أخوك/ محمد آل هتيله

  2. اخوك / مد العنزي يناير 8, 2019 في 4:18 م - الرد

    ما شاء الله منتهى الابداع
    والروعة اشكرك شكر خاص من الاعماق اشكر ايضا ملكة لار على عمق الاسرار

    انديرا عشقت من حروفها الدال والألف
    لابد ان يتم حفظها ونشرها في الافق

اضف تعليقاً

أخبار ذات صلة