عن الكاتب

لاشك أن كل ما درسناه منهجيا ليس بالشرط أن يكون حقيقةً، وأن كافة سلوكيات الجماعة وممارساتها ليس بالضرورة أن تكون صحيحة، كما أن الحكمة التي هي أعلى مراتب المعرفة ليست حصرا على فرد أو مُلكا لجماعة، وعطفا على ذلك فإنه يُفترض أن يعمل الفرد على توسيع مداركه بالبحث والقراءة والإطلاع في كل الإتجاهات ومن كل المصادر والتدقيق والتمحيص في كل ما يراه ويسمعه، ليس من باب المخالفة أو التفرد بالرأي وإنما من باب الاستقلالية وإعمال العقل الذي خصه به الخالق دون غيره من المخلوقات، وذلك  حتما سيمكنة من رفض الوصاية والتبعية بكافة أشكالها وألوانها، ورفض تسليم عقله للآخرين، وبالتالي رفض سلوك القطيع الذي يُغَلّب العقل الجمعي على العقل الفردي وتكون النتيجة محاربة النقد الهادف والإبداع الفكري وإقصاء الناس وسلبهم حرياتهم. والحجة في ذلك هي خروجهم عن المجتمع، والمقصود حقيقةً هو خروجهم عن “العقل الجمعي” وليس المجتمع.

.

ومع أنني لا أومن بجميع مسلمات نظرية العقل الجمعي Collective Mind التي تشير في أهم مسلماتها إلى أن البشر لا يفكرون بمفردهم وما يفعلونه فقط هو الإستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة، ولا أجزم أن العقل الجمعي في جميع حالته سيئا. إلا أنني لا أنكر وجود سطوة عارمة للعقل الجمعي في مجتمعنا- إما قصورا في التفكير عند البعض أو تقاعسا عن الغوص في التفاصيل عند البعض الآخر- فهناك من الناس لا يعرف ما يريد وبالتالي يسلم نفسه للجماعة ليفكروا نيابة عنه ويقرروا له ماذا يفعل وكيف يفعل، وهناك من يعرف ما يريد ولكنه لا يعرف كيف يصل لما يريد فيبحث عن من يرسم له الطريق الذي يسلكه ليصل لما يريد بغض النظر عن مدى سلامة ومناسبة هذا الطريق له، وهناك من يعرف ما يريد ولكنه لا يثق في نفسه وقدراته وبالتالي يلجأ للعقل الجمعي، فينبهر بأفكار الآخرين ويسلك مسلكهم  إما لكثرتهم أو لمكانتهم الاجتماعية أو وضعهم المادي أو درجتهم العلمية أو مركزهم الوظيفي دون كثيرا من التخطيط أو التفكير وفق ما يسمى بسلوك القطيع.

.

وبغض النظر عن ما ذهب إليه عالم الإجتماع الفرنسي Durkheim في نظريته العقل الجمعي Collective consciousness،  فإن الإسلام جعل للإنسان إرادة مستقلة عن إرادة المجتمع ، ولذلك فرض عليه الفروض وأوجب عليه التكاليف، وطالبه بإعمال الفكر والعقل، ومخالفة الأفكار الغير
سليمة التي يتبناها غيره من الناس حتى وإن كانوا أغلبية أو كانوا بمكانة قريبة جدا من نفسة فالمحبة شيء واحترام الفرد لعقله شيئا آخر.

.

وظاهرة العقل الجمعي (أو ما يعرف بالأثر الاجتماعي) ظاهرة نفسية تفترض أن تصرفات الجماعة في حالة معينة تعكس سلوكاً صحيحاً. فعلى سبيل المثال تكون نظرة المجتمع للأفراد الناجحين من أصحاب المناصب أو أصحاب المكانة الإعتبارية في المجتمع تتجه نحو البحث عن الفضائل ومراكز القوة في شخصياتهم والتي تلائم أن تكون سبب نجاحهم، والتغاضي عن أخطائهم وافكارهم الغير سليمة. وهذه المواقف تجعلهم يستفيدون من تبجيل الأغلبية لهم مما يعود عليهم بهالة من الشعور الإيجابي أكبر مما هم عليه في الحقيقة. ويتجلى تأثير العقل الجمعي في الحالات التي تسبب غموضاً اجتماعياً، ويفقد الفرد قدرته على تحديد السلوك المناسب، وبدافع افتراض أن الآخرين يعرفون أكثر منه عن تلك الحالة.

.
وتظهر سطوة أثر الجماعة في قابلية الأفراد إلى الانصياع إلى قرارات معينة وممارسات محددة بغض النظر عن صوابها من خطئها في ظاهرة تسمى بسلوك القطيع Herd Behaviour. وظاهرة العقل الجمعي هي أحد أشكال الانصياع والإذعان. فعندما يفقد الفرد قدرته على اتخاذ موقف من أمر معين، يلجأ إلى الآخرين بحثاً عن المؤشرات وعن القرار الصحيح والموقف المناسب. عندها ينصاع الفرد بسبب أنه يؤمن أن تفسير الآخرين لموقف ما هو أكثر صواباً مما قد يختاره بنفسه، وسوف يساعده في تحديد ردة الفعل المناسبة وذلك بسبب التأثير الاجتماعي المعلوماتي.
.

فالرضوخ للعقل الجمعي لا يؤدي إلى البحث عن التقبل من العامة فحسب (موافقة تصرفات الآخرين دون الاقتناع بصحتها) بل قد يصل إلى التقبل الشخصي (القناعة الشخصية بأن الآخرين على صواب)، ويتبنى الفرد أفكارا جمعيةً جاهزة كما يحدث في محاضرة علمية أو حوار تلفزيوني أو ندوة ثقافية أو حتى في مجلس عائلي أو ديوان قَبَلي أو في حوارات الأصدقاء والرفاق. وما يتم في وسائل التواصل الاجتماعي كتويتر وفيسبوك وواتس أب-التي تلعب دورا كبيرا في مسائل التهييج الجماهيري وفرض التفكير الجمعي على العامة وتغييب العقل الفردي في جميع القضايا الخلافية الدينية والسياسية والاجتماعية- الا أحد صور حاكمية العقل الجمعي.

.
ويتجلى العقل الجمعي في أوضح حالاته عندما يكون ما يهم هو أن تكون على حق في “أعين الغير” حتى ولو لم تكن مقتنعا، وتعتقد بأن الآخرين هم أجدر منك بمعرفة الحقيقة!!

.

د.خالد بن ناجي آل سعد

“نجران نيوز”

شارك هذا المقال

آخر الأخبار

وصول الطائرة الإغاثية السعودية الـ 48 لإغاثة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة التي يسيّرها مركز الملك سلمان للإغاثة

الجمعة, 26 أبريل, 2024

“هيئة النقل” تلزم السائقين في أنشطة النقل بالحافلات بالزي الموحد

الخميس, 25 أبريل, 2024

الهيئة العامة للغذاء والدواء : منتجات «شبيه» الأجبان والألبان والحليب «آمنة».. تخضع للوائح والمواصفات

الخميس, 25 أبريل, 2024

سجناء في فنزويلا حفروا نفقاً لمدة سنة ونصف للهرب.. وفي النهاية كانت المفاجأة!

الخميس, 25 أبريل, 2024

بيان من الديوان الملكي: غادر خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بعد أن استكمل الفحوصات الروتينية

الأربعاء, 24 أبريل, 2024

ألبوم الصور

كتاب الرأي

مقالات أخرى للكاتب

[fusion_widget type="CRP_Widget" margin_top="" margin_right="" margin_bottom="" margin_left="" hide_on_mobile="small-visibility,medium-visibility,large-visibility" fusion_display_title="no" fusion_border_size="0" fusion_border_style="solid" fusion_align="center" fusion_align_mobile="center" fusion_bg_color="var(--awb-color1)" crp_widget__limit="5" crp_widget__post_thumb_op="text_only" fusion_padding_color="-20px" /]

اضف تعليقاً