عن الكاتب

في تشرين الثاني من عام 1757، كان الملك لويس الخامس عشر في أبأس حالاته، ويعتليه الهمّ إثر هزيمة جيشه في روسباك، وجاءته محبوبته مدام دو بومبادور ونظرت إلى عينيه، وقالت “عليك ألا تحزن كثير كيلا تمرض، ومن بعدنا الطوفان”.

منذ تلك اللحظة، سارت عبارة “من بعدنا الطوفان” في أصقاع الدنيا، وأخذت تتنقّل من ثقافة إلى أخرى كفيروس بغيض وطفيلي لا يستأذن من يتغلغل في جسده، لتؤسس مبدأ الأنانيّة والجشع والتضحية بالآخرين وليس من أجلهم، وأفرزت نماذج بشريّة مشوّهة ولا أخلاقيّة، وليس لها حظ من الإنسانيّة سوى مظهرها الخارجي.

المقولة أنتجت تجّارًا لا يتورّعون عن الغشّ والتلاعب بالأسعار لتنمية ثروتهم، ومعلمين لا يكترثون بالتحصيل العلميّ لتلاميذهم ما دام المرتّب مقبوضًا لا محالة، ووعاظًا يبيعون الوهم ويتاجرون بالدّين لكسب شعبيّة زائفة تسهم في زيادة أرصدهم البنكيّة، وآباء يعنفون من هم تحت وصايتهم إرضاءً لأمزجتهم السقيمة، ومسؤولين لا يؤدون ما أقسموا عليه انشغالاً بالتشريفات والوجاهة الاجتماعية.

من سيُغرق الطوفان إذن؟، بمعنى آخر “ما الشيء المابعدي الذي يهدد الطوفان وجوده”؟، حتمًا إنها الإنسانيّة ببعدها الأخلاقي، ستغرق القيم النبيلة ومبادئ التسامح والتعاون والتشارك والمحبة والإيثار، سيغرق الإنسان الحقّ وقبل ذاك سيتحوّل إلى عملة نادرة الوجود، لأننا نعيش منذ أن قالت مدام دو بومبادور “ومن بعدنا الطوفان” حالة طوفان خفيّ لا تزيح الأستار عن الإنسانيّة في لحظة واحدة، بل تنزع خصالها تدريجيًا حتى نبلغ في نهاية الطريق مرحلة التوحّش البشري.

إننا في فكرة الطوفان الثائر نستحضر سفينة النجاة، لكنها في حقيقتها ليست سفينة نزيهة، وإنما حافلة بالعنصريّة والتمييز، لأنها مخمليّة لا تحمل فوق ألواحها الخشبيّة ومساميرها المذهّبة وأشرعتها الحريريّة سوى أولئك الكرهين للآخر والمغالين في حبّ ذواتهم حتى ضاقت سفينتهم ذرعًا بالبسطاء والعامّة، لتتحوّل إلى مركب نخبويّ يستمتع من على ظهره بمظهر الطوفان الذي يغرق كل شيء سواهم في مشهد درامي تتوارى فيه الإنسانيّة خلف الأمواج الهادرة.

كان الشاعر الجاهليّ دريد بن الصمّة رغم انغماسه في البيئة الجاهليّة يؤكّد بأنه من قبيلة “غزيّت” فإن غوت فسيغوى معها، وإن رَشُدت فسيكون أيضًا راشدًا، أي إمّا أن يكونوا جميعًا ممن ينجو من الطوفان، وإلا فإن الغرق في حضرة الجماعة فضيلة، ومع أن فكرته لا تخلو من جانب العصبيّة القبليّة، إلا أنها من جهة ثانية تحمل سمة الوفاء والإخلاص والتضحية، تلك السمات التي أخذت تتلاشى تدريجيًا خلف مقولة “من بعدك الطوفان”.

 .

ياسر صالح البهيجان 

 ماجستير في النقد والنظرية

yalbhijan@

“نجران_نيوز”

شارك هذا المقال

آخر الأخبار

سجناء في فنزويلا حفروا نفقاً لمدة سنة ونصف للهرب.. وفي النهاية كانت المفاجأة!

الخميس, 25 أبريل, 2024

بيان من الديوان الملكي: غادر خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة بعد أن استكمل الفحوصات الروتينية

الأربعاء, 24 أبريل, 2024

تُعد نقلة نوعية غير مسبوقة في قطاع الطيران عالمياً وتربط رحلة الضيف بكافة أنشطة السفر : “السعودية” تدشن النسخة التجريبية لأحدث خدماتها الرقمية المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي

الأربعاء, 24 أبريل, 2024

النائب العام يُقرّ إنشاء مركز برنامج حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا

الأربعاء, 24 أبريل, 2024

“البيئة” تُطلق مسابقة لهواة التصوير لاختيار أجمل الصور والفيديوهات لبيئة المملكة المحلية

الإثنين, 22 أبريل, 2024

ألبوم الصور

كتاب الرأي

مقالات أخرى للكاتب

[fusion_widget type="CRP_Widget" margin_top="" margin_right="" margin_bottom="" margin_left="" hide_on_mobile="small-visibility,medium-visibility,large-visibility" fusion_display_title="no" fusion_border_size="0" fusion_border_style="solid" fusion_align="center" fusion_align_mobile="center" fusion_bg_color="var(--awb-color1)" crp_widget__limit="5" crp_widget__post_thumb_op="text_only" fusion_padding_color="-20px" /]

اضف تعليقاً